حريّ بتوثيق كل شيء وخصوصا في المواعيد الكبرى. كأس العالم مسابقة لا تتكرّر دائما. مونديال قطر كشف كل شيء. الوجه الإنساني شيء نادر. صخب الجمهور وصوته المتعالي بالهتاف والتشجيع شيء نسمعه دون أن نتقفى حيثياته. مونديال قطر كرّس هذا الجانب. أوروبا بكرتها الجميلة أمتعتنا ولازالت. الدوريات الكبرى لها مناصروها ومشجعوها المولعون بها.
الإنجليز والإسبان والإيطاليون والفرنسيون وغيرهم بألوانهم المختلفة يجتمعون على الولع باللعبة الشعبية، لكنهم لا يظهرون قيمتها الإنسانية في تعزيز الروابط الأسرية وتماسكها مثلما عكس ذلك المغاربة. الجميل في الأشياء أن تكون بنسختها المغربية الخالصة. الصورة أقرب إلى قلب الناس مما يقال من كلام في الصحف والمواقع الإلكترونية حتى.
الاختزال في الكلام مفيد، بل هو مفيد جدا. أحيانا نعبّر بأفضل طريقة إن اختزلنا الكلام إلى أبعد الحدود. لكن الصورة وقعها أقوى في مخيّلة الناس، خصوصا إذا عكست ذلك المسكوت عنه. المفروض أن تتدّعم هذه القاعدة أكبر مع تنوع وسائل التواصل الاجتماعي. المونديال بأحداثه الصاخبة، الجميع عاش ولا يزال يعيش أطواره بانتباه جاد.
ظاهرة أخرى برزت مع المنتخب المغربي. حريّ بالصحافة أن تطرق بابها من زمان وتبحث فيها وتوليها الأهمية التي تستحق. أن تظهر للناس الأساس في اللعبة الملهمة لكل شعوب العالم. مع العروض التي يقدمها “أسود الأطلس”، هناك عروض أخرى تظهرها مختلف الصفحات كل ساعة وكل دقيقة وكل ثانية تقريبا. ثقافة جديدة يرسّخها الجيل الذهبي للمغرب. قواعد إنسانية أساسية موازية للنجاحات التي يحققها هؤلاء الأسود على المستطيل الأخضر.
رقصات وعشق وإلهام وحب وتقبيل للجبين.. عذرا ليس المقصود الحبيبة أو الصديقة أو الزوجة هنا. هن حاضرات أيضا في المدرجات يساندن بدورهن. لكن الحديث وكاميرات المتابعين مركّزة على دروس وعبر يخطها نجوم الأطلس رفقة من أوجدوهم إلى هذا الكون ليكونوا أحد الفاعلين فيه. عِبَر إنسانية خالصة وقواعد الأسرة المتينة والمتراصة مسلسل تتواصل حلقاته بتشويق مثير مع التقدم في أدوار البطولة التي بلغ الأسود مربعها الذهبي.
عوامل كتلك الأم المتحلقة في المدرجات برفقة بقية الأسرة تساند أشرف حكيمي ومع كل انتصار يعود إليها بالحضن والقبلات على الجبين لا يمكن أن تكون سوى مغربية الجذور والأصل. عفوا وعربية المعدن أيضا.. لأننا نخالها ونتصورها في جميع بيوتنا من المحيط إلى الخليج. رقصة النجم سفيان بوفال مع والدته على عشب ملعب الثمامة تداولتها جميع الصفحات بتركيز تام على ذلك الغزال في عين الوالدة والأم والمربية و”الحنانة” بلغتنا نحن التونسيين الضاربة في أعماق الريف. تتجاوز الصورة المدرجات لتصبح مثار حديث العالم بين الصحافيين ومذيعي الشبكات الناقلة للمباريات.
علّق أحد المذيعين الألمان على حركة اللاعب المغربي يوسف النصيري وهو يعانق والده وبجانبه زميله جواد الياميق في نهاية مقابلة المغرب مع إسبانيا والتي انتهت بتأهل المغرب إلى دور الربع النهائي وكذلك اللقطات الأخرىلحكيمي وسفيان بوفال وحكيم زياش مع أمهاتهم وعائلاتهم بالقول “هذه المشاهد الحميمية مع العائلة لم نعد نرها في مجتمعاتنا الغربية التي تسودها الأنانية والمثلية الجنسية واندثار مفهوم الأسرة ودفئها وعقوق الوالدين ورميهما في الملاجئ.. العائلة وتحفيزها المعنوي وراء انتصارات الفريق المغربي. أما نحن فجئنا لنساند المثليين ونضع أكفنا على أفواهنا بشكل مخجل، فخرجنا خاليي الوفاض ومن الباب الضيق.. هم تعلموا الكرة منا وأصبحوا يتقنونها وتجاوزونا، ونحن يجب أن نتعلم الأخلاق منهم علّ وعسى أن نرى يوما أمهاتنا تعانقننا يوما ما في المدرجات..”.
هذا هو الوجه الآخر للمونديال الذي كرسه نجوم مغاربة يافعون. الوجه الذي تكشف عنه كرة القدم في أبهى صورها حين يرتبط الفعل بالفاعل ليعانقا المجد. المغرب يقدّم الدروس للعالم على جميع النواحي.. رياضيا الكل يتابع الإنجاز الذي يخطه الأسود برباطة جأش. اقتصاديا كل الدلائل والمؤشرات والأرقام لا تحجب حقيقة ما بلغه المغرب من قفزة اقتصادية ونمو في جميع القطاعات والميادين. أمنيا بهدوء راسخ وسياسة حكيمة تعيش المملكة استقرارا دائما يوفر بيئة مواتية للاستثمار الأجنبي.
تلك هي القاعدة الأساسية والمقاربة التي تروم التدليل على أن الوضع الذي تعيشه أي دولة يعكس واقع كرة القدم على الميدان.. النجاح وليد البيئة التي هيأت كل الظروف أمام هؤلاء بأن يحققوا المستحيل ويكتبوا التاريخ بأن القصة مازالت مشوقة حتى وإن رقصوا، فتلك ليست سوى ديباجة والقادم أجمل.