ما الذي يدفع قطر إلى الرهان على الفساد؟
لا يحق للمسؤولين الأوروبيين أن يشعروا بالدهشة من أن بعضهم يتلقى رشاوى من قطر. كما لا يحق للسلطات في بروكسل أن تستغرب العثور على أكياس مليئة بالنقود في منازل المتهمين بالفساد.
أكياس النقود لم تكن عضوا في البرلمان الأوروبي فقط. إنها عضو في العديد من المؤسسات الأوروبية، ومراكز النفوذ المختلفة. وليست الأحزاب والمنتديات السياسية هي الزبون الوحيد. دع عنك الشبهات التي دارت حول بعض قيادات الفيفا. إذ ما من منظمة يمكنها أن تلعب دورا ما، إلا وكانت تلك الأكياس عضوا فاعلا فيها. هذا هو واقع الحال. والأكياس ليست اختراعا جديدا للتهرب من رقابة الحسابات المصرفية. إنها اختراع قديم. وليست كثرة المال القطري هي السبب الوحيد فيه. فالفساد مثل رقصة التانغو، تحتاج شخصين: كثرة المال من جهة، وكثرة الرغبة بالفساد من جهة أخرى.
إيفا كيلي العضو في حزب الحركة الاشتراكية اليونانية، انتخبت في يناير الماضي نائبة لرئيسة البرلمان الأوروبي. ولا أحد يعرف حتى الآن، متى أصبحت عضوا في حزب الأكياس القطري، إلا أنها عندما عادت من زيارة إلى قطر مطلع نوفمبر الماضي، خاطبت البرلمان الأوروبي بالقول إن “تنظيم قطر للمونديال يُثبت التحوّل التاريخي لبلد ألهمت إصلاحاته العالم العربي”.
أحد زملائها قال “فهمت الآن”.
◙ “مؤسسة” الفساد الخفية في قطر كان يمكن أن تحقق، من دون فساد، أكثر بكثير مما “حققته” فتحوّل إلى فضائح زائدة عن الحاجة، وكوميديا أكثر من اللازم
السؤال لا يتعلق في الحقيقة بما يقوله أي أحد عن قطر، في أي مكان، ولكنه يتعلق بما إذا كان شراء الكلام، أو الامتيازات، ينفع قطر من الأساس. فهو عادة ما يرتد عليها بأسوأ مما كان يمكن للانتقاد أو حتى التجريح أن يفعله، فيقدم صورة للبلد قد لا تكون هي بالفعل صورته الحقيقية.
الفساد موجود في كل مكان. لا تحتاج إلى أن تتعب في البحث عنه في أوروبا. وما من أحد في السلطة أو بالقرب منها إلا ويمكن شراؤه بهذا السبيل أو ذاك.
المفوضية الأوروبية أصدرت في العام 2014 تقريرا وصفت فيه مستويات الفساد في أوروبا بأنها “مرعبة” وأنها تكلف الاقتصاد الأوروبي 120 مليار يورو سنويا. والصورة لم تتغير كثيرا منذ ذلك الوقت. ما تغير هو أن المفوضية لم تصدر تقريرا مماثلا (على حد ما أمكن للبحث عنه). ولكن تقريرا لمنظمة الشفافية الدولية، قال في العام 2020 “إن خمسا من دول الاتحاد الأوروبي لم تصل إلى عتبة 50 في المئة في مؤشر مدركات الفساد للعام 2019. وأن مشكلة استغلال المال العام برزت كمشكلة كبرى كبيرة في بلدان: المجر، بولندا، رومانيا، كرواتيا واليونان”.
المعنى من ذلك هو أن الفساد موجود وتاريخي، ولن ينقطع، ولا تحتاج إلى عبقرية لكي تعثر عليه وتقيم علاقات دبلوماسية معه.
المشكلة الأكبر، في الواقع، تتعلق بقطر نفسها: لماذا تحتاج أن تستعين بأدوات فساد لتحسين صورتها في العالم؟ ما هو الشيء الخطير الذي يمكن أن يحصل لو أنها لم تراهن عليه، وهي بلد مستقر ويحتل موقعه الطبيعي في التجارة العالمية (حتى ولو اقتصرت على الغاز)، وينعم بثروات تجعله قادرا، بالوسائل السليمة، أن يمتلك نفوذا وتأثيرا معقولا، وأن ينسج علاقات صداقة وتعاون مع كل مستويات المسؤولية، في أي مكان في العالم، لإبراز ما يريد أن يُبرز.
هناك “مؤسسة” ما في الدوحة تعتقد أن الفساد والإفساد هما السبيل لاختراق الآفاق. من دون أن تسأل نفسها: أي آفاق؟
أنفقت قطر على استضافة المونديال 220 مليار دولار. وهو مبلغ يزيد عشرين مرة عن أعلى تكلفة لأي مونديال سابق. ولقد ظهر أنه مونديال ناجح، مما يبرر أن تفوز قطر بكل ما تستحقه من تهان. ولكن “شراء الطريق” إلى المونديال أدى في النهاية إلى تشويه الصورة.
في العالم العربي سمح التقدم الذي حققه المنتخب المغربي بتغطية تلك الصورة. إذ منحنا المونديال غبطة عوضت الكثير من مشاعر الهزيمة والانكسار في الرياضة وفي غيرها. السمو الأخلاقي الذي ظهر به اللاعبون المغاربة كان هو الفوز الأعظم. ولكن الصورة في العالم الغربي لم يظهر ما يعوضها أو يغطي عليها. ظهر منها الفساد فقط.
الوضع ليس يائسا بالضرورة. “مؤسسة” الفساد قد تدرك الآن أنها لم تحقق مكسبا، وأنها أضرت بسمعة البلد في أهم مشروع من مشاريعه. فباستثناء صناعة الحروب الأهلية، لم تنفق قطر مقدارا مماثلا من المال على أي مشروع آخر. وها هي تُلاحق بما صنعت. الضرر لن ينتهي بسرعة. والتحقيقات قد تكشف عن المزيد. والذين لم يفوزوا بكيس من الأكياس سوف يزيدون النقمة على قطر، من ناحية لأنهم لم يحصلوا على حصتهم، ومن ناحية أخرى لكي يُظهروا أنهم أبرياء من كل فساد آخر.
◙ أكياس النقود لم تكن عضوا في البرلمان الأوروبي فقط. إنها عضو في العديد من المؤسسات الأوروبية، ومراكز النفوذ المختلفة. وليست الأحزاب والمنتديات السياسية هي الزبون الوحيد
هل كان الطريق الآخر (لاختراق الآفاق) صعبا؟ هل كان أطول فعلا؟
الحقيقة، هي أنه ربما كان أقصر وأسهل. ومع كثرة ما يتوفر من إمكانيات، فهو ربما كان يحتاج فقط: أن تعرف ما هي الآفاق التي تقصدها!
أحب نوعين من الأفلام. الأول، لسجناء يخططون للهرب. والثاني، لعصابة تخطط لسرقة بنك. في كلا هذين النوعين، يمكنك أن تشاهد براعة في الالتفاف على القيود تغني مجرمي النمط الأول عن ارتكاب أي جريمة للالتفاف على عقد الحياة. كما تشاهد في النمط الثاني عبقرية في التخطيط والتنفيذ تكفي لكي يُصبح المرء رئيسا تنفيذيا لأكبر بنك، فيتقاضى أجورا أعلى بكثير من كل ما كان يمكن أن يسرقه ويدفع به إلى السجن.
ما أحبه في الواقع، هو الكوميديا في هذه المفارقة. ولكني مع مرور الأيام أدركت أن “الطبع غلاّب”. ومَنْ جُبِل على ارتكاب جريمة، سوف يفعلها. ومن جُبِل على السرقة، سوف يسرق حتى ولو أعطيته مال قارون.
“مؤسسة” الفساد الخفية في قطر كان يمكن أن تحقق، من دون فساد، أكثر بكثير مما “حققته” فتحوّل إلى فضائح زائدة عن الحاجة، وكوميديا أكثر من اللازم.
ولكنك لا تحتاج، وأنت تنظر إلى دوافع الفساد سوى أن تقول ما قاله ذلك المفجوع “الآن فهمت”.