أزمة الطاقة في أوروبا تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية الدولية
تشمل الأزمة الحالية في أوروبا الدافع الأبرز لإعادة تشكيل جيوسياسي كبير على نطاق عالمي، متجاوزة حدود الطاقة والأسعار. ولا يعرف أحد بالضبط كيف سيبدو المشهد السياسي في العالم عندما يستقر الوضع، وعلى الأرجح سيكون ذلك بعد سنوات. لكن من المؤكد أن الأمور ستكون مختلفة عما كانت عليه في اليوم السابق لغزو روسيا لأوكرانيا.
تحذر وكالة الطاقة الدولية في توقعاتها السنوية للطاقة لهذا العام من أننا نعيش حاليا “أزمة طاقة عالمية ذات عمق وتعقيد غير مسبوقين”، وأنه “لا يوجد سبيل للعودة إلى ما كانت عليه الأمور” قبل المزيج غير المسبوق من صدمات فايروس كورونا المستجد وحرب أوكرانيا. وأعادت هذه الأحداث معا تشكيل تجارة الطاقة في جميع أنحاء العالم، لكن موجات صدمة الاقتصاد العالمي بدأت للتو.
البطولات والمصالح
كانت موسكو تاريخيا أكبر مصدّر للنفط والغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة. وينظر الكثيرون إلى عجز الطاقة الحالي في أوروبا من زاوية البطولة، على حد وصف هالي زارمبا في موقع “أويل برايس”، حيث تعرّض الاتحاد الأوروبي لضربة اقتصادية هائلة في فرضه لعقوبات على الكرملين في مجال الطاقة بما يمكن أن يشل الاقتصاد الروسي على أمل إنهاء الحرب في أوكرانيا.
وذكرت مجلة “الإيكونوميست” مؤخرا أنه “في النضال لمساعدة أوكرانيا ومقاومة العدوان الروسي، أظهرت أوروبا وحدة وعزيمة واستعدادا مبدئيّا لتحمل تكاليف هائلة”.
ولكن تصرفات أوروبا تثير قلقا كبيرا بعيدا عن الإعجاب. حيث أن أسعار الغاز أصبحت أعلى بست مرات من متوسط المعدلات، وتشير النمذجة الجديدة إلى أن ارتفاع أسعار الطاقة الحقيقية بنسبة 10 في المئة يرتبط بزيادة الوفيات بنسبة 0.6 في المئة خلال فصل الشتاء النموذجي، وهو ما يعادل أكثر من 100 ألف حالة وفاة إضافية لكبار السن في جميع أنحاء أوروبا في الأشهر المقبلة.
وليست أوروبا وحدها هي التي تتحمل هذه التكاليف، حيث تهدد نقاط الضعف المالية الناشئة في القارة بزعزعة استقرار بعض البلدان الأوروبية المثقلة بالديون بما سيمتد إلى الدول النامية والمستوردين الصافين للطاقة في جميع أنحاء العالم. كما هو الحال دائما، سيكون الفقراء هم من سيخسرون أكثر، وسيتحمل الجنوب العالمي عبئا هائلا من حرب الطاقة التي لا علاقة له بها. وفي حين أن العواقب المدمرة لحرب الطاقة بين روسيا وأوروبا تلقي بثقلها على المستهلكين في جميع أنحاء العالم بالفعل، إلا أنها ستزداد سوءا في العام 2023.
العواقب المدمرة لحرب الطاقة بين روسيا وأوروبا تلقي بثقلها على المستهلكين في جميع أنحاء العالم بالفعل، إلا أنها ستزداد سوءا في العام 2023
وتنتظر التوقعات السنوية الرئيسية الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤخرا حدوث “تباطؤ كبير” للاقتصاد العالمي في العام القادم، حيث سينخفض إلى 2.2 في المئة، قبل أن يشهد انتعاشا صغيرا في العام 2024 إلى حوالي 2.7 في المئة. وفي ما يخصّ اقتصاد الولايات المتحدة، الذي كان محميّاً نسبيا من الأزمة حتى الآن، تبدو التخمينات أكثر قتامة.
وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ينمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 1.8 في المئة فقط هذا العام، مقارنة بـ2.2 في المئة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، ونموا ضئيلا بنسبة 0.5 في المئة في العام المقبل قبل “التعافي” بشكل طفيف لتحقيق نمو ضعيف بنسبة 1 في المئة سنة 2024. ومن الواضح أننا نتجه نحو “ضغط اقتصادي وحشي” سيشكّل اختبار ضغط كبير لأوروبا وحلفائها وأعدائها.
وحسب تقرير “الإيكونوميست” عن آثار الأزمة المستمرة، ستتزايد المخاوف من أن إعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي والشعبوية الاقتصادية الأميركية والخلافات الجيوسياسية تهدد القدرة التنافسية طويلة المدى للاتحاد الأوروبي والدول غير الأعضاء، بما في ذلك بريطانيا.
ولا يقتصر الخطر على تهديد ازدهار القارة، بل إن صحة التحالف عبر الأطلسي معرضة للخطر أيضا. وانتقد العديد من القادة الأوروبيين بشدة إستراتيجيات الولايات المتحدة الحمائية والقومية في مجال الطاقة، بما في ذلك قانون خفض التضخم الأخير، الذي خصص 400 مليار دولار من الحوافز للطاقة والتصنيع والنقل في البلاد.
نقاط ضعف
وألقت الأزمة الحالية الضوء على نقاط الضعف الاقتصادية في أوروبا. حيث أن الاعتماد طويل الأمد على الوقود الأحفوري الرخيص الذي يوفره سلطوي متقلب وعدواني تحول إلى ديناميكية خطيرة، وهذا ليس مفاجئا.
لكن الابتعاد عن النفوذ الروسي يدفع بالفعل العديد من الدول إلى أحضان الصين، مما يخاطر بنفس النوع من نقاط الضعف وصدمات الطاقة المستقبلية إذا قررت تلك الدولة ممارسة سلطتها على العديد من معادن الأرض النادرة وسلاسل إمداد الطاقة النظيفة الأخرى التي تسيطر عليها بشكل شبه كامل.
وقد سمح الغرب للصين بالتنافس والابتكار في ما يتعلق بتكنولوجيا الطاقة النظيفة التي سيكون الانتقال إليها بتكلفة منخفضة دون التقرب من بكين أمرا مستحيلا على المدى القريب.
وبينما تميل الولايات المتحدة والصين إلى السياسات الحمائية والمحلية أولا، تبدو أوروبا، حسب وصف “الإيكونوميست”، مغفّلة بإصرارها الغريب على التمسّك بقواعد منظمة التجارة العالمية بشأن التجارة الحرة.