النصر للمغاربة

الاسود

في السادس من نوفمبر 1975 قاد الملك الراحل الحسن الثاني المسيرة الخضراء الكبرى نحو الأراضي الصحراوية المغربية بهدف استرجاعها وإنهاء الاستعمار الإسباني بها، شارك فيها 350 ألف مغربي ومغربية، وإلى اليوم لا يزال المغاربة يحيون ذكراها بالكثير من الوفاء لمبادئها وأهدافها وشعاراتها الوطنية والسلمية والتحررية، وبعد 47 عاما وشهر واحد، قاد المغاربة مسيرة خضراء جديدة من ملعب المدينة التعليمية بالدوحة، وكان لهم الانتصار التاريخي عن جدارة على المنتخب الإسباني ومن هناك الترشح كأول منتخب عربي لدور الثمانية، وكرابع منتخب أفريقي، بعد الكاميرون عام 1990، والسنغال عام 2002، وغانا عام 2010.

انتصر المغاربة بالكثير من التحدي والعزيمة والتلاحم بين اللاعبين، وبالقدرة على مواجهة المنافس وشلّ حركته ومنعه من تسجيل الهدف الذي يمنحه أسبقية الفوز، وعندما جاء موعد الركلات الترجيحية، نجح الحارس في حماية ثغر مرماه، وسجّل زملاؤه ثلاثة أهداف في مرمى الإسبان. كانت مقابلة رياضية ولكن بروح لا تخلو من الخلفية السياسية والثقافية ذات الصلة بتلك العلاقة المعقدة مع الجار الشمالي والتي كانت على الدوام علاقة متحرّكة في إطار الصراع التاريخي والحضاري بحكم الجوار والتنافس على النفوذ بالمنطقة.

◘ مئات الملايين في بلاد العرب ومختلف دول العالم اهتزت فرحا بانتصار المغرب وتأهله للربع النهائي، وصفقت للمدرب وليد الركراكي ولكتيبة مقاتليه الذين أبهروا الجميع في لحظات الهجوم

يتميز المغاربة بهدوء يخفي وراءه قوة صاخبة، وبقدرة على تحقيق أهدافهم عندما يريدون، وهم يستمدون روحهم القتالية من عظمة تاريخهم وعنفوان حضارتهم وتنوع ثقافتهم ومن ثرائهم الروحي الذي يثير الاهتمام بشكل واسع على مستوى العالم. والمغربي في حد ذاته وطن وأمة وقارّة سواء كان في شاهقات الجبال في الشمال أو في امتدادات الصحراء في الجنوب، ومهما كان عرقه أو دينه أو لونه أو موقعه، فإن الانتماء للمغرب في حد ذاته عقيدة، حتى أن هناك من غير المغاربة من أصبحوا مغاربة بالولاء الحضاري لتلك العراقة ولذلك التوهج الثقافي والجمالي ولتلك الخصوصيات التي لا يمكن أن نجدها في بلد آخر غير المغرب.

انتصارات المنتخب المغربي بعثت البهجة والفرح في قلوب مواطنيه في الداخل والخارج، وفي العرب من المحيط إلى الخليج فأحيت بذلك شعورا رائعا بالقدرة على النجاح والتفوق، وأكدت أن الإرادة بوابة النصر العظيم، وأن المغاربة يعرفون جيدا كيف ينتصرون في كل الساحات، وحتى إذا عاكستهم الظروف في هذه المناسبة أو تلك، فإنهم يعاودون المحاولة بعزيمة المؤمن بقدرته على قهر الصعاب، وينجحون في ذلك.

في مونديال المكسيك عام 1986 كان المغرب أول بلد عربي يتأهل لدور الـ16، وبعد 36 عاما يعود ليتحدى وليكون أول بلد عربي يمر للدور ربع النهائي، وكأن العرب كانوا طوال هذه السنوات ينتظرون المغاربة ليفكوا لهم عقدة العبور نحو درجة أفضل من سلّم التميز الكروي، وهو ما حصل فعلا، على أمل أن يكون المكسب أكبر، فأسود الأطلس رفعوا من سقف التوقعات وأصبح لديهم طموح إلى كسر جميع الحواجز التي قد تعترضهم في طريق نصف النهائي، لاسيما أن مونديال قطر أثبت أن العرب يمكنهم أن يراهنوا على هزم الكبار، وقد فعلها السعوديون أمام الأرجنتين، وفعلها التونسيون أمام فرنسا، وفعلها المغاربة أمام بلجيكا وإسبانيا وعندما تصدروا مجموعتهم في الدور الأول منطلقين نحو أفق أوسع، وسيعيدون الكرّة أمام البرتغال، وهم قادرون على ذلك.

يستوحي المغاربة قدرتهم على التفوق من تاريخهم العريق وتحضّرهم وأصالتهم، وهم الذين يتمسكون بجذورهم، ويخاطبون العالم بخصوصيات ثقافتهم، ويعيشون حالة الاستقرار السياسي الفريدة من نوعها في ظل نظام يستمد شرعيته من عمق التأسيس للعلاقة القائمة بينه وبين الشعب منذ أربعة قرون، ومن قدرته على توحيد المغاربة تحت غطاء هوية واحدة رغم تعدد روافدها، ومن جدارته بالولاء الكبير الذي يحظى به وهو الذي كان على الدوام قريبا من شعبه، ومدافعا صلبا عن وطنه في السراء والضراء، عن الاستقلال والحرية في زمن الاستعمار، وعن حقوقه التاريخية في أقاليمه الجنوبية، وعن مكانه ومكانته في عالم اليوم برؤية من يتجه نحو الغد بالكثير من جرأة الاقتحام.

يمتاز المغرب بجاذبية ندر أن تتوفر في غيره من البلدان والأوطان، لذلك فهو قبلة الملوك والأمراء والفنانين والشعراء والمشاهير والباحثين عن بصمة الذوق وسحر الجمال وروعة الطبيعة وثراء الثقافة، وقبل ذلك كان ملجأ الباحثين عن الأمن والاستقرار، وعندما نتحدث عن الجود والكرم فهو منزله العالي، وإذا ذكرنا الشجاعة والنبالة فهو عنوانها الخالد، وعندما نتحدث عن الوداعة والطيبة والأناقة فهو مثالها الأصيل.

◘ انتصر المغاربة بالكثير من التحدي والعزيمة والتلاحم بين اللاعبين، وبالقدرة على مواجهة المنافس وشلّ حركته ومنعه من تسجيل الهدف الذي يمنحه أسبقية الفوز

مئات الملايين في بلاد العرب ومختلف دول العالم اهتزت فرحا بانتصار المغرب وتأهله للربع النهائي، وصفقت للمدرب وليد الركراكي ولكتيبة مقاتليه الذين أبهروا الجميع في لحظات الهجوم، ولكن كذلك بخطة الدفاع التي شكلت ملحمة رائعة للصمود، وكما أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، فإن الدفاع كذلك يمكن أن يكون خير أداة للهجوم بتمهيد الطريق والإعداد للفرصة المناسبة التي يقتنصها المهاجمون على طريق النصر.

وأما أولئك الذين لا يريدون الخير للمغرب، فلا عزاء لهم وهم يرونه كبيرا في تحديه وتفوقه، وهم يقرأون في موقعة ملعب المدينة التعليمية ما توحي به روح التحدي من رمزية عابرة للحدود والتاريخ والظروف والحالات، فالانتصار قرار، وعندما يتخذه أصحابه يصلون به ومعه إلى حيث يريدون، وأقوى الأسلحة هو الإيمان بالذات والإصرار على التحدي والارتفاع فوق الصغائر والوثوق بالتفوق لحظة الاختبار.

من حق المغاربة أن يحلموا بالذهاب بعيدا في مونديال قطر، ومن ورائهم العرب والأفارقة وغيرهم ممن يعتبرون أنفسهم مرتبطين بالمغرب حبّا وسلاما وانتماء روحيا أو ثقافيا، وممن رأوا في انتصار أسود الأطلس على جيرانهم الإسبان فرصة مناسبة لإعادة تشكيل خارطة عالم كرة القدم بما ترمز إليه اليوم من نفوذ وقوة وإبهار وثروة وجاذبية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: