تزامنا مع زيارة إيمانويل ماكرون إلى واشنطن لإعادة الدفء إلى علاقات البلدين، متعللا بحاجة الحلفاء الماسّة إلى التنسيق وإعادة مزامنة أجندات سياساتهم، اختارت باريس الاقتصادي كريستوف لوكورتييه، مدير مؤسسة “بيزنيس فرانس” الحكومية، المقرب من الرئيس الفرنسي، لتولي منصب سفير فرنسا الشاغر منذ عدة أشهر في الرباط، وهي خطوة بمثابة محاولة اختراق جبل الجليد بين البلدين من بوابة الاقتصاد الذي يبرع فيه لوكورتييه.
ومع استمرار الأزمة التي تشهدها العلاقات المغربية – الفرنسية، هناك انفتاح مغربي على الشركات العالمية من مختلف البلدان من منطلق تنويع الشركاء الدوليين. والمفتاح الأساسي هو التعامل مع مملكة تدافع عن موقعها وأدوارها بالمنطقة والعالم، وليس تابعا يملى عليه ما يجب فعله. لهذا تراقب فرنسا بقلق الوجود الاقتصادي المتنامي للصين وإسبانيا وواشنطن في المغرب، ومهمة لوكورتييه محددة في تطوير التعاون الاقتصادي مع المغرب وكل ما يتعلق بالاستثمار في مجالات التكنولوجيا والطاقات المتجددة.
والمطلوب من السفير الجديد أن يكون ناطقا باسم ماكرون طيلة ولايته، ويتعين عليه عدم الارتهان لأمزجة السوق وسياسات الابتزاز التي تنتهجها دول بعينها. وقبل تشجيع الجهات الفاعلة في الفريق الفرنسي على العمل جنبًا إلى جنب مع الشركاء المغاربة ومن خلالهم الأفارقة، لا بد من النظر مليا في طبيعة السياسات التي ما زالت باريس تنتهجها. إذ لا يمكن أن يتم إطلاق ديناميكية قوية ومستدامة، إلا من منطلق شراكة فاعلة إيجابيا مع تطلعات وخطط المملكة على جميع الأصعدة.
◘ يتعين على لوكورتييه التمتع بقدرات دبلوماسية ومعرفة عميقة بالملفات التي سيعمل عليها داخل المغرب، وليس فقط البحث في إمكانية إنشاء أسواق جديدة
منذ أشهر كثيرة، تتدهور العلاقات بين الرباط وباريس لتتحول إلى حرب باردة حقيقية، سياسية ودبلوماسية واقتصادية وحتى في وسائل الإعلام. وتشير التطورات الأخيرة إلى عمق الأزمة بين البلدين، فالأزمة متشعبة الأسباب والدوافع، وليس آخرها تقليص عدد التأشيرات التي تمنحها للمغاربة.
ضغوط باريس على الرباط للحفاظ على وضعها الاقتصادي والسياسي والأمني التفضيلي في المملكة وصلت في مراحل معينة إلى مرحلة كسر العظم، لكن دون جدوى. ويبدو أن الفرنسيين لعبوا كل أوراقهم، ووصلوا في النهاية إلى الاقتناع بأنهم فقدوا أرضية كبيرة أمام القوى الإقليمية مثل إسبانيا، والقوى الدولية مثل الصين والولايات المتحدة.
يأتي اختيار السفير الجديد لمعالجة ما تراه فرنسا فشل شركاتها أمام الشركات الأجنبية في الفوز بمشاريع كبرى بالمغرب، مثل مشروع القطار فائق السرعة وميناء الداخلة والطرق السيارة. لم تستوعب باريس أن أصحاب القرار المغربي يصيغون سياساتهم الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية بمنطق الانتصار للمصلحة العليا قبل أي شيء آخر. المفاضلة بين الشركات تأتي من هذا المنطلق، وليس لحسابات تتعلق بامتيازات دأبت عليها شركات فرنسية بعينها لعقود طويلة دون الخضوع لمعادلة السوق والمناقصات والعروض.
تواجد السفير الفرنسي الجديد بالرباط لن يغير عقيدة مغربية تمت صياغتها لخدمة الاقتصاد المغربي بالدرجة الأولى. وكما فشلت السفيرة السابقة هيلين لوغال في هذا الأمر فإن مهمة خلفها لن تكون سهلة إلا إذا غيّر المنهجية وتعامل مع الواقع الذي يقول إن المغرب وضع قواعد سلوك يجب اتباعها.
الجانب الآخر من الصورة يبين أن تراكمات كثيرة دفعت المغرب إلى مقاومة ضغوط الفرنسيين الذين يريدون احتكار الامتيازات دون أن يقدموا الثمن. من المفترض أن تصبح سياسة الفرنسيين أكثر نضجا وفعالية مما كانت عليه سابقا، خصوصا بعدما كثفت باريس ضغوطها على المغرب إلى درجة تحولت فيها الأزمة الصامتة إلى أزمة واضحة وجلية. انظر إلى وسائل الإعلام الفرنسية الرسمية وغير الرسمية، وقد تحولت إلى وقود يزكي حملة ضد المغرب.
◘ ضغوط باريس على الرباط للحفاظ على وضعها الاقتصادي والسياسي والأمني التفضيلي في المملكة وصلت في مراحل معينة إلى مرحلة كسر العظم، لكن دون جدوى
بالرغم من أن فرنسا وشركاتها تجاوزتهما الكثير من الأحداث والمتغيرات، إلا أن هناك خطة تتم تهيئتها من طرف المؤسسة التي يرأسها السفير الجديد إلى جانب وزارة الخارجية والتجارة هدفها الأساسي هو تعزيز تنافسية الشركات الفرنسية للاستحواذ على مشاريع بمليارات الدولارات، ومواجهة العدد المتزايد من الشركات الأجنبية التي نفذت بالفعل عمليات استحواذ في أوروبا وأفريقيا، والتعامل مع إستراتيجيات الشركات الشرسة التي أضعفت تواجد الفرنسيين بالمغرب وأفريقيا، بسبب قصور في العملية الاستشرافية للإدارة الفرنسية.
شعرت فرنسا بأنها على وشك خسارة منطقة نفوذ أخرى في شمال أفريقيا بعدما ضعفت سيطرتها على عدد من الدول الأفريقية، وبالتالي يراهن ماكرون على رؤية دقيقة يقدمها السفير الجديد لمناخ الأعمال بالمغرب وأفريقيا، تساعده على إعداد خطة عمل لمرحلة ما بعد الأزمة، والهدف تحسين تنسيق أعمال الشركات والحكومة بمشاركة المزيد من المعلومات لتكون أكثر استجابة وقدرة على تدارك ما فاتها.
والسؤال، هل هذا الاختيار في محله، بعدما شغل لوكورتييه منصب سفير فرنسا في أستراليا بين يوليو 2014 ويونيو 2017، وخلال هذا الوقت كان جزءًا من حملة لتأمين طلب لمجموعة “نافال” الفرنسية لصناعة السفن لبناء الجيل الجديد من الغواصات الأسترالية، لكن الصفقة تم إلغاؤها مؤخرا رغم أنه كان متابعا لتفاصيلها من موقعه كرئيس شركة بيزنيس فرانس.
يتعين على لوكورتييه بوصفه مسؤولا عن تنمية الاستثمارات الدولية للشركات الفرنسية والترويج الاقتصادي لبلاده التمتع بقدرات دبلوماسية ومعرفة عميقة بالملفات التي سيعمل عليها داخل المغرب، وليس فقط البحث في إمكانية إنشاء أسواق جديدة، وهذا سيوفر الوقت والجهد والمناعة لمهمته، ويمنح الفرصة للمؤسسات الفرنسية التي كانت تكيد للمملكة لتعيد حساباتها على ضوء المتغيرات الجديدة.
تولي لوكورتييه مهامه في المغرب ليس في حد ذاته حدثا، ولا يمكن اعتباره تغييرا جذريا في الموقف الفرنسي من عدد من الملفات، ولكنه محاولة من ماكرون للنظر في المواضيع من وجهة نظر اقتصادية، وهذا لا يستقيم مع القاعدة التي رسمها العاهل المغربي الملك محمد السادس بأن الاستثمار في المغرب لا يمكن أن يتم دون اعتراف بالسيادة المغربية على صحرائه. وهذا يعني أن المطلوب من القائمين على صناعة السياسات الفرنسية تقديم عرض جيد للرباط لتجاوز هذه الأزمة.