ما الذي حدث في بروكسل بعد انتهاء مباراة بلجيكا والمغرب؟ الفريق المغربي تمكن من الفوز بعد مباراة قوية وهو الأمر الذي يجعل فكرة الغضب المرتبط بالمباراة غير صالحة لتفسير أحداث الشغب، ولا بد أن شيئاً من الاستفزاز الخفي أو الذي سيبقى خفياً هو الدافع الرئيسي وراء ممارسات المشجعين المغاربة في شوارع العاصمة البلجيكية.
من المبكر الحكم على الأمر، فهل ينتمي هؤلاء المغاربة إلى الجيل الأول أم الثاني أم الثالث من المهاجرين؟ كل هذه إجابات يتوجب على الحكومة البلجيكية أن تعمل على قراءتها، والسؤال: هل يريد البلجيكيون فعلاً قراءة ذلك؟
غالباً لم يعد تساؤل مثل لماذا يشجع أبناء الجالية المغربية بلدهم الأصلي، وبعضهم ربما لم يزره في حياته، ولا يعرف عنه سوى صورة حالمة، ولا يقومون بتشجيع فريق البلد الذي ولدوا فيه ويعيشون على أرضه ويحملون جنسيته؟ والأخطر من ذلك، لماذا يعتبرون هزيمة الفريق البلجيكي أمام المغرب يحمل جزءاً من إعادة الاعتبار، والأمر نفسه ينسحب على الفرنسيين والجزائريين.
المسألة لا ترتبط جوهرياً بالتاريخ الاستعماري، ففي وسط ذلك التاريخ تمكنت فرنسا من تجنيد الجزائريين للقتال في صفوفهم ضد الغزو النازي، بمعنى أن الفكرة أصبحت بعيدة نوعاً ما، وعلى الرغم من أن الجزائر هي البلد الوحيد الذي يحضر اسم دولة أخرى في نشيدها الوطني، فينشد الجزائريون: يا فرنسا قد مضى وقت العتاب.. وطويناه كما يطوى الكتاب.
قبل أسابيع عرض فيلم (أثينا) الذي يتحدث عن انتفاضة عنيفة لأحد أحياء باريس الفقيرة التي يسكنها المغاربة والأفارقة بعد مقتل أحد الأطفال على يد الشرطة ويصور الغضب المكبوت الذي يستدعي تاريخاً طويلاً من الإقصاء الذي لم تستطع أن تدحضه عملية تصعيد العديد من أصحاب الأصول المغاربية إلى موقع متقدم في السياسة والمجتمع الفرنسيين. والأخطر في الفيلم أنه يوضح في النهاية أن القتلة ليسوا من الشرطة ولكن من اليمين المتطرف، في نبوءة بما يمكن أن يحدثه صعود اليمين في أوروبا.
إن عقوداً من التعايش والانفتاح في أوروبا لا يمكن أن تعتبر نهاية سعيدة لتفاعلات التاريخ في أووربا ولا أن تتحول إلى قاعدة مستمرة ومستقرة قياساً بتاريخ العنف
يذهب الدكتور عمر خليفة أستاذ اللغة العربية في جامعة جورج تاون إلى التفسير الطبقي، فهو لا يرى رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك سوى رجل أبيض آخر، ويتوقع أن يكون أسوأ في عنصريته من منافسه الحزبي بوريس جونسون، فيصف المشهد بطريقته: ابتسم الرئيس ابتسامة عريضة، وأكد أن المهم هو لون الأسنان، وبما أن أسنانه بيضاء، فهو أبيض، وبما أنه أبيض، فهو بريطاني عظيم، وبما أنه بريطاني عظيم، فمن حقه ألا يقل قذارة عن بوريس جونسون نفسه.
الواضح أن بياض الأسنان في مقاربة خليفة تتعلق بوضع طبقي يمكن من الحصول على خدمات طبية متميزة، والأمر نفسه يقدمه في رواية على خط غرينتش الروائي المصري المقيم في بريطانيا شادي لويس الذي يصل إلى أن الأسود في المجتمع البريطاني ليس الإفريقي وحده، فمعه يحضر الشرق أوسطيون والآسيويون واللاتينيون وحتى البريطانيون الذين لا يتشاركون كعكة سيطرة المؤسسة المهيمنة.
على الجانب الآخر، يؤكد الروائي البلجيكي ديميتري فيرهولست هذه الرؤية في أعماله، فيتحدث في روايته التعساء عن الاستقبال الجيد الذي تتحصل عليه الأسرة من جيرانها الإيرانيين المهاجرين جديداً والانطباعات الايجابية، ولعل ذلك يفسره العم العابث في الرواية جيردر مع قوله: لم يكن لدي أي حقوق في هذا البلد، أبداً. وأنا سعيد بالتنازل عن أي حقوق يفترض بي الحصول عليها. بهذه الطريقة لن يزعجني أحد.
يفترض أن حقبة الثمانينيات هي التي شهدت الحياة الهامشية والبائسة لعائلة فيرهولست خارج ما يمكن وصفه بدولة الرفاه البلجيكية، وهي ليست العائلة الوحيدة إلا أن الطبقات العاملة في الغرب الأوروبي لا تمتلك الحافز من أجل إظهار الغضب تجاه ظروفها، فهي استنفدت جميع آمالها السابقة وفهمت تفاصيل المجتمع ووصلت إلى تسويتها الخاصة، تسوية شبيهة بالتي أقامها المشجعون الانكليز الشرهون للبيرة والتدخين في المدن العمالية، أما المهاجرون من المغرب العربي وأفريقيا فأرصدة الأمل ما زالت متخمة لديهم وبذلك يتولد الغضب من الخذلان المستمر.
هل يمكن القول بأن المغاربة والأفارقة غير مؤهلين للاندماج في دول غرب أوروبا التي استعمرت سابقاً مناطق واسعة من أراضيهم، ويحملونها داخلياً جزءاً من حالة التردي التي تعيشها بلدانهم؟ الإقرار بذلك يحمل نبرة عنصرية تدفع أساساً لصدام مع اليمين العنصري تؤجله خيارات اليسار السيئة في الغرب الأوروبي وانحيازاته التي لا تمثل الأولويات المعيشية للملايين، بمعنى وجود فرصة لتحالف الأقليات العرقية مع اليمين لأنه يقدم نفس الثيمات الأخلاقية المحافظة التي تتوافق مع كثير من الفئات المهاجرة.
تعيش بلجيكا وغيرها من الدول الأوروبية أزمات وجودية وهوياتية عديدة مع مراجعات لأدوار الدولة ومركزيتها وأدواتها الديمقراطية، والواقع أن عقوداً من التعايش والانفتاح في أوروبا لا يمكن أن تعتبر نهاية سعيدة لتفاعلات التاريخ في أووربا، ولا أن تتحول إلى قاعدة مستمرة ومستقرة قياساً بتاريخ العنف والدموية الذي وصل ذروته في حربين عالميتين أخذت دروسهما تبتعد عن وعي الأجيال الصاعدة، وتفشل مراراً وتكراراً في الإجابة عن الأسئلة الجديدة التي تطفو على سطح العيش اليومي ومتطلباته.
أعمال الشغب في بروكسل ومدن بلجيكية أخرى أتت في ضوء الفوز بمعنى أن عملاً اعتراضياً أنتجته حالة من عدم الفهم، وحضرت خلاله إشكاليات الاندماج، وبحيث يتطلب ذلك، دراسة أعمق من ظواهر الغضب والاستياء الاعتيادية تجاه التأمل في المستقبل الذي تدفعه شيخوخة أوروبية مضطربة تتغذى بالدماء الساخنة والأحلام الطازجة للقادمين الجدد للحلم الأوروبي الذي يتغير بالمقابل مع التقاطع الحاد للثقافات والقناعات داخله.