تنتظر المنتخب المغربي خطة أخرى وينتقل إلى الدور الثاني بعدما فاز على بلجيكا في ملعب الثمامة بقطر الأحد بثنائية نظيفة وضعت المنتخب على مشارف الدور ثمن النهائي للمرة الثانية في تاريخه بعد الأولى عام 1986، في يوم مشهود وتاريخي في كرة القدم المغربية.
التأهل لم يحسم بعد، وهنا يقفز العقل الحذر لمدرب المنتخب المغربي وليد الركراكي ليقول “علينا التحلي بالهدوء أمام كندا، لا ينبغي إهدار هذه الفرصة”، وهنا نتذكر مساهمته الحاسمة كمدرب في تتويج الوداد البيضاوي بلقب الدوري المغربي ودوري أبطال أفريقيا 2022، ونجاحه في مهمته هو نجاح للوطن وذلك هدف الكل.
طَموح وواقعي
بطموح جارف، لكن بعفوية مصحوبة برؤية استشرافية، يقول الركراكي بلغته الدارجة “شوفو بغيتونا نربحو ديرو الثقة فينا وزينو نيتكم، راه لزينتو نيتكم الكرة تدخل للمرمى وفي حالة العكس لن ننتصر، عونونا بالنية ونكونو قلبْ واحد، وغادي تشوفو (إذا أردتمونا ننتصر ثقوا بنا أحسنوا النوايا، لأنه إذا أحسنتم النوايا تدخل الكرة إلى المرمى وفي حالة العكس لن ننتصر، أعينونا بحسن النية كي نكون قلبا واحدا، وسنرى ما سيحدث)”.
ويشير في كلامه إلى أن الثقة باللاعبين والنية الحسنة في الإيمان بحظوظهم في التأهل أساس النجاح، مع مزيج من الحكمة والتعقل والواقعية التي استند إليها في عمله المرهق والمحبب له في نفس الوقت، مع ما ينتظره في وقت الضيق مع إيقاع مختلف عن سلفه البوسني وحيد خليلوزيتش، لكي يصل إلى سقف طموحات المغاربة.
وتتمثل القاعدة التي تعزز موقع الركراكي الآن في العبرة بالخواتيم والنتائج خلال مدة وجيزة استطاع فيها مدرب المنتخب المغربي التأقلم مع الوضعية الجديدة وإثبات أنه أهل للمسؤولية، مدرب محنك بمواصفات عالمية، واقعي ومقاتل شرس نقل تجربته وحماسه إلى عناصر المنتخب الوطني مركزا على التجديد في الأسلوب والمنهجية في التعامل مع اللاعبين والظرفية التي تمليها اللعبة.
الحماس منقطع النظير الذي يحييه الركراكي من جديد، يتماشى فعليا مع البنيات اللوجستية ذات الجودة العالمية التي يتوفر عليها المغرب، وحجم الاعتمادات المادية التي وضعت رهن إشارة الرياضة
كنت تراه في مباريات العام 2004 لاعبا نحيلا، كظهير أيمن بإمكانات قتالية عز نظيرها في الملعب، وبعد ثمانية عشر عاماً ستجد رجلا يصنع من اللاعبين كتلة من المحاربين يمارسون لعبتهم بعقيدة المؤمن بالفوز تكتيكيا وبدنيا، ودون إهمال الناحية الذهنية.
الكل نوه بالمستوى المميز الذي ظهر به المنتخب المغربي بقيادة الركراكي، خلال فوزه على نظيره البلجيكي، في الجولة الثانية للمجموعة السادسة من مونديال قطر 2022. فقد استطاع رفقة فريقه إدخال الفرحة في قلوب المغاربة والعرب وعشاق اللعبة من مختلف مناطق العالم، وسيطر على المباراة وفاز بها عن جدارة.
وكانت قراءة المدرب المتأنية والفاحصة لمجريات المباراة وتغييراته على صواب وأعطت النتيجة المرجوّة بعد أن تمكن البدلاء من تسجيل هدفين في وقت دقيق جدا، فلم يكن الركراكي بعيدا عن هموم وطموح وتعثرات الفريق الوطني، بل ظل يراقب ويسجل الملاحظات منذ أن كان يعمل مساعدا في الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2013. كانت تلك أول تجربة تدريبية له، وعندما تمت إقالة المدرب رشيد الطاوسي في أكتوبر 2013 تم إنهاء عقده أيضًا.
منتخب مختلف
ولد الركراكي في بلدية كورباي إيسون في الضواحي الجنوبية من باريس بفرنسا في 23 سبتمبر عام 1975، وفي رصيده اليوم 45 مباراة دولية. ويروي والده أن ابنه كان شغوفا بكرة القدم منذ سن الخامسة، الأمر الذي دفعه إلى الانخراط في صفوف فريق محلي قبل أن ينضم إلى فريق فرنسي ويبحر في عالم كرة القدم.
ويواصل الأب سرده لحكاية تألق ابنه قائلا “شاهد مدرب المنتخب الوطني المغربي، الذي كان حينها أورني ميشيل، الركراكي في تولوز، فأتى به إلى الفريق الوطني”. وبعد سنوات سيدرس الركراكي التدريب في فرنسا، ثم يعمل مع فريق الفتح الرباطي، ويغادر إلى قطر، قبل أن يعود إلى المغرب لتدريب الوداد.
وفي هذه النسخة من المونديال لم يجبن ولم يتبرم عندما طالبته الجماهير بعودة حكيم زياش إلى صفوف المنتخب، بعد اعتزاله اللعب دوليا بسبب خلاف بينه وبين المدرب السابق الذي قاد الأسود إلى النهائيات للمرة السادسة في تاريخهم، فكان محط إشادة من الركراكي في المؤتمر الصحفي عقب الفوز على الشياطين الحمر، فبلباقة وصدق وصف زياش باللاعب المذهل، بعودته عادت الروح إلى صفوف المنتخب.
قال الركراكي “يقول عنه الكثير من الناس إنه شخص مجنون ولا تمكن إدارته وقيادته مع مجموعة ولا يمكنه أن يساعد الفريق، لكن ما لاحظته شخصيا هو أنه عندما تمنحه الحب والثقة يمكنه أن يموت من أجلك”، إنه الدرس الذي استخلصه الركراكي منذ أول ركلة كرة قدم له مع فريق راسينج كلوب دي فرانس، ثم تولوز وأجاكسيو وديجون وفلوري ميروجيس.
خبرات الركراكي تعود إلى تجاربه العديدة والمتنوعة، فقد لعب في فريق فلوري ميروجيس الفرنسي، واستطاع بحنكة تحقيق النجاح مع الفتح الرباطي، وهو فريق بتشكيلة لا نجوم فيه، ولم يحصل على أي لقب قبل توليه تدريبه
وكان خليلوزيتش قد اتهم زياش بأنه لا يمكن “الوثوق به ويثير المشاكل في صفوف المنتخب، ولا يساند الفريق وينتظر الكرات فقط”، إلا أنه أثبت تحت قيادة الركراكي أنه عكس ما وصفه به منتقدوه. لقد استطاع الركراكي بمزيج من الإرادة والدهاء إطلاق إمكانيات زياش وكل اللاعبين بطريقة منحتهم الثقة بالنفس والقدرة على العطاء، يقول إنه كان يعرف قبل بدء بطولة كأس العالم لكرة القدم أن زياش لا يلعب بانتظام في تشيلسي “وصمّمت على ضمه، فلاعب مثل زياش يجب وضعه في أفضل الظروف ليقدّم لنا الأفضل”.
ويقول الركراكي عن هذه التجربة “هذا ما منحته إياه، وقد رد لي الثقة التي وضعتها فيه وللعديد من الجماهير المغربية التي طالبت بعودته إلى صفوف المنتخب. إنه لاعب مفتاح في التشكيلة مثل امرابط، وعندما يكون لديك لاعب مثله على أرضية الملعب، على غرار حكيمي ومزراوي، فسيكون لدينا فريق مختلف”.
روح الفريق والتضامن الجماعي، الذي استطاع الركراكي أن يزرعه في نفوس لاعبي المنتخب، جعلا زياش يقول إن الفوز بجائزة رجل المباراة مع بلجيكا كان بفضل جميع اللاعبين الذين يستحقونها عن جدارة، مضيفاً “عرفنا كيف ندافع جيدا ونستغل أخطاء الخصم، من خلال الركلات الثابتة أو الهجمات المرتدة”، وهنا يتذكر النجاح الذي حققه الركراكي في الدوري المغربي خلال موسم 2015 – 2016 مع فريق اتحاد الفتح الرياضي، أول فريق مغربي يدربه.
لم يكن الركراكي أنانيا بنسبته الفضل في فوز المنتخب المغربي إلى ذاته، فذلك النجاح ليس لأجله هو، بل لأنه أسعد شعب المغرب الذي ظل ينتظر هذا الانتصار منذ مونديال فرنسا 1998، وهو سعيد بأداء الفريق والروح القتالية التي تحلى بها اللاعبون، معترفا بأن المباراة لم تكن سهلة، وقد رافقتها الكثير من المشاهد والسيناريوهات المتقلبة. حسّه الإنساني وقربه من اللاعبين دفعاه إلى تقبيل رأس والدة عبدالحميد صابيري الذي سجل الهدف ضد بلجيكا، مفسحًا المجال أمام العائلة لتكون من أوائل عائلات اللاعبين التي دخلت مقر إقامة المنتخب في الدوحة، لأن صابيري مرتبط بوالدته ارتباطا شديدا ويتبرك بها قبل المواعيد الهامة والكبيرة، وهي كلمة سر انتصاراته ونجاحاته، إلى جانب تفاؤل جل اللاعبين بحضور أسرهم معهم لإعلاء همتهم.
صوابية القرارات
يقول الواقع الحالي إن الركراكي لن يكون ضمن صفوف المدربين الفاشلين الذين تعاقبوا على تدريب المنتخب المغربي، فهو بعفويته غير الساذجة خبر أسرار الملاعب وتموجات الكرة ولاعقلانيتها، وكان محط اهتمام الحساب الرسمي للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) على تويتر، عندما غرد مازحا مع الركراكي وهو ينشر له صورة تظهره يقدم تعليماته خلال مباراة بلجيكا، ومرفقا المشهد بصورة من قطعة لفاكهة لافوكا، رأس فاكهة لافوكا المغربي الذي يحمل الجنسية الفرنسية، كان ظهيراً أيمن سبق له تمثيل منتخب المغرب في 45 مباراة دولية، واستطاع أن يصنع الفرق ولم يكن ليخدع شعباً ومؤسسات منحته كل الإمكانيات ليدخل الفرحة في قلوب الكل سواء على أرضية الملعب أو على منصة التصريحات الصحفية.
قبل ذلك، ورغم صعوبة الموقف في أول لقاء مع البوسنيين، نجح رهان الركراكي في تخطي صعوبات وضغوط اللقاء، وأثبت أن التضحية بالمدرب السابق كانت في محلها.
قدرة الركراكي على تقديم مزيج من الإرادة والدهاء أطلقت إمكانيات زياش وكل اللاعبين بطريقة منحتهم الثقة بالنفس
لقد أثبت الركراكي أنه مدرب من طينة عالمية مختلفة؛ فقد استطاع أن يتكيف مع موقعه الجديد من مدرب للفتح ثم لنادي الوداد، الذي فاز معه بكل شيء، إلى قيادة المنتخب الوطني خلال شهرين فقط قبل بدء المونديال، ولم يلعب سوى مبارتين وديتين تحت إدارته.
نجاحه، وهو الذي لعب في فريق فلوري ميروجيس الفرنسي، ليس طارئا بل استطاع بحنكة وصبر وتأنّ وجرأة تحقيق ذلك مع الفتح الرباطي في البطولة الوطنية وكأس الكاف، ذلك الفريق الذي لم يسبق له أن حصل على أي لقب، وبتشكيلة لا تتوفر على نجوم.
مع هذا الحماس منقطع النظير الذي استطاع الركراكي أن يحييه من جديد، يتماشى فعليا مع البنيات اللوجستية ذات الجودة العالمية التي يتوفر عليها المغرب، وحجم الاعتمادات المادية التي وضعت رهن إشارة الرياضة وكرة القدم على وجه الخصوص للنجاح، وبالتالي فالقرارات يجب أن تذهب في هذا الاتجاه وعليها ألا تعتمد على ردود الفعل السلبية، بل يجب أن تعتمد على المساهمة في تغيير العقليات التي تدير هذه الرياضة وغيرها من الرياضات وتعززها بالمواهب وتعمل على تطويرها، ونجاح التجربة مع وليد الركراكي الذي يملك ما يمكّنه من قيادة المنتخب في الفترة القادمة رغم صعوبة المهمة دليل على أن المسار صحيح في دعم الرياضة المغربية وبرامج تطويرها.