بلد مستقر ومتسامح ومتعدد الثقافات وغني بتنوعه الحضاري. هذا هو المغرب وهذه هي قصته التي جعلت مؤسسات الدولة تَهُبّ مجتمعة لحماية التراث الثقافي اللامادي للمملكة، بما في ذلك فنون الأداء والعادات الاجتماعية والتقاليد الشفوية والطقوس والاحتفالات والممارسات المتعلقة بالطبيعة.
فالحديث عن التراث لم يعد كما أكدت المديرة العامة لـ”اليونسكو” أودري أزولاي “محصورا في المواقع التاريخية، بل يشمل التراث من تقاليد واحتفالات وطقوس تنتقل من جيل إلى آخر”. واعتبرت أزولاي أن أهم ما قدمته اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003 هو “إعطاء بعد آخر لمفهوم التراث”.
هناك تقاليد وممارسات دبلوماسية مغربية عريقة في التعامل مع محاولات انتهجتها شركات ودول للاستيلاء على المنتج التراثي المغربي لأغراض سياسية أو تجارية، دون مراعاة لمكانة ذلك الموروث الذي يعبر عن هوية وحضارة البلد ومواطنيه.
نستحضر في هذا المقام، محاولات دول توظيف المال والعلاقات للسطو على بعض من تراث وثقافة المغرب، من أطباق طعام وموسيقى إلى صناعات تقليدية مثل الزليج. وهي محاولات لا زالت مستمرة إلى الآن، رغم حرص المغرب المستمر الذي تؤكده الدلائل والمعطيات التاريخية والعمرانية على الحفاظ على تراث المملكة وإدارته.
لا شك أن حماية التراث الثقافي اللامادي مصدر قيّم لرفد الاقتصاد بمختلف قطاعاته. فهي تحقق على سبيل المثال، معدلات نمو جيدة وتساهم في التنمية، من خلال تدفق النقد الأجنبي، وتطوير البنية التحتية
وتعزيزا للشعور بالانتماء لم يقف المغاربة مكتوفي الأيدي أمام محاولة اختراق تراث بلدهم وتقاليده، بل دافعوا كل من موقعه من أجل إعلام الجميع أن التراث هو الهوية في عالم معولم يسحق الخصوصيات. ففي سبتمبر الماضي مثلا، طلبت وزارة الثقافة المغربية من شركة أديداس سحب قميص المنتخب الجزائري، بسبب حمله أشكالا معمارية هي جزء من التراث المغربي، عقب نشر صور للاعبين جزائريين يرتدون القمصان الجديدة.
ليس بالضرورة أن يأتي الرد المغربي آنيا ومتسرعا، بل هناك مواقف تحتاج إلى الكثير من التروي واختيار المكان والتوقيت الملائمين. هذا ما فعله المغرب من خلال مؤسسته الملكية، عندما بادر العاهل المغربي الملك محمد السادس بالدعوة، في رسالة وجهها إلى الدورة السابعة عشرة للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي الذي تنظمه منظمة اليونسكو المنعقدة بالرباط، والتي تستمر إلى الثالث من ديسمبر المقبل، للتصدي لمحاولات الترامي على التراث الثقافي للدول، ومنها التراث المغربي الذي سجل حتى هذا اليوم أحد عشر عنصرا بقائمة التراث غير المادي العالمي آخرها فن “التبوريدة” الذي تم تسجيله خلال العام الماضي.
وتفاعل الناس مع التاريخ والتراث على مستوى واسع وفردي، لا يتحقق من خلال تفسيرات الخبراء للتراث فقط، ولكن من خلال حماية روابط وعلاقات المواطنين، فرادى وجماعات، مع الأماكن والمساحات من حولهم. لهذا نتفق إلى حد كبير مع عبدالله بوصوف رئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج الذي أكد أن تصدي الملك محمد السادس لما يتعرض له التراث اللامادي من سرقات يدخل في إطار حقوق الإنسان، ورعاية حقوق الأجيال الصاعدة. ولا يحق لنا أن نفرط في تراثنا فهو إرث يجب أن نعمل على إيصاله إلى الأجيال القادمة، والمغرب، تحديدا، حريص على المحافظة على إرثه لأن البلد غني جدا بهذا التراث.
هؤلاء الذين يدركون هذه القيم عبر العالم، طوروا طرقهم الخاصة لنشر معارفهم ومهاراتهم. فالتراث الثقافي غير المادي يخلق جسورًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى كافة المؤسسات، بكل تلويناتها، تحمل مسؤولياتها للمساهمة في استمرارية وتعزيز بنية المجتمع بخبرات جديدة، دون التفريط بالإرث المتراكم الذي شكل هوية وحضارة وصورة كل بلد، ويتمثل التحدي الرئيسي لتحقيق الاستدامة في التركيز على نهج تشاركي تفاعلي.
وللتراث، إضافة إلى كل ما قيل، إمكانات تنموية مختلفة؛ فبإمكانه المساهمة في التنمية المستدامة للبلد في ما يتعلق بالتنمية المستدامة. تنمية تشمل الجوانب الاجتماعية والبيئية والثقافية. ومع ذلك، نادرًا ما يكون للتراث في حد ذاته فوائد ملموسة إن لم تتم إدارته بشكل صحيح.
◘ هناك تقاليد وممارسات دبلوماسية مغربية عريقة في التعامل مع محاولات انتهجتها شركات ودول للاستيلاء على المنتج التراثي المغربي لأغراض سياسية أو تجارية
ثروة التقاليد هي الدافع الرئيسي للسفر نحو المملكة، حيث يسعى السياح للتعرف على ثقافات جديدة وتجارب مختلفة في فنون الأداء والحرف اليدوية والطقوس والمأكولات. كل هذا يعتبر حافزا على التعاون الثقافي من خلال اجتماعات ونقاشات تبني التفاهم وتشجع على التسامح والسلام.
لا شك أن حماية التراث الثقافي اللامادي مصدر قيّم لرفد الاقتصاد بمختلف قطاعاته. فهي تحقق على سبيل المثال، معدلات نمو جيدة وتساهم في التنمية، من خلال تدفق النقد الأجنبي، وتطوير البنية التحتية. كما تساهم تقنيات الإدارة الجديدة والخبرة التدريبية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلد. هذا إلى جانب المساحات والمعمار وأطباق الطعام والملابس والتقاليد المشتركة، وهو السبب الرئيسي الذي يجعل المغاربة يقدرون تراث بلدهم المادي واللامادي ويدافعون عنه.
لا بد هنا من الاستئناس برأي الخبراء ومنهم خالد الشرقاوي السموني مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والإستراتيجية الذي يؤكد أن التميز المغربي هو ما جعل التراث الثقافي ببلادنا يحظى بقيمة عالمية، وأن رعاية العاهل المغربي للتراث عززت من احترام الإرث الثقافي وقيم التعايش والحوار الحضاري.
التفاعل مع التاريخ والتراث على مستويات مكثفة وشخصية لا يتحقق من خلال تفسيرات الخبراء فقط، ولكن من تفاعل الناس مع الأماكن والمساحات والتقاليد. وهذا ما يدفعنا إلى الاتفاق مع عبدالله بوصوف بخصوص انتظارات الجالية المغربية بالخارج، خاصة الأجيال الصاعدة التواقة إلى المحافظة على هذا التراث الذي يربطها بالثقافة المحلية الأصيلة. وهو التوق الذي نجح المغرب في توظيفه كقوة ناعمة خدمة للقضايا الإنسانية الكبرى وتعزيز ثقافة التعدد والتنوع والمحبة والتسامح.