ارتباك جزائري: نفي واعتراف وإلغاء لمناورات مع روسيا

فسح نفْي وزارة الدفاع الجزائرية إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع قوات روسية في أقصى حدودها الغربية، المجال أمام تأويلات مختلفة حول خلفيات ودلالات القرار المفاجئ، خاصة أن بيان الوزارة الذي صدر في هذا الغرض ضمّ نفيا وفي الوقت نفسه تضمّن اعترافا بوجود المناورات وإلغائها.

يأتي هذا ليكشف عن وجود خلافات كبيرة داخل السلطة الجزائرية بين تيار براغماتي يريد استرضاء أوروبا والولايات المتحدة والنأي عن روسيا في الظروف الحالية، ولو مؤقتا، وتيار موسكو الذي يتحكّم في قرار المؤسسة العسكرية، لكنه بدأ يفقد نفوذه تدريجيا.

وكذبت وزارة الدفاع الجزائرية إجراء مناورات مشتركة مع الجيش الروسي، بمنطقة حماقير في محافظة بشار على الحدود مع المغرب، وهو ما تم تداوله على نطاق واسع من طرف عدة تقارير دولية في الآونة الأخيرة.

واعتبرت تقارير أوروبية أن المناورات التي كانت مبرمجة بين الجزائريين والروس في محافظة بشار تمثل تهديدا للمصالح الإستراتيجية الأوروبية، كونها تسمح بنقل النفوذ الروسي العسكري إلى حيّز الجغرافيا الأوروبية، وأنها رسالة شديدة اللهجة من موسكو إلى القارة يفيد مضمونها بقدرة روسيا على توسيع ونقل المواجهة من محيط أوكرانيا إلى حزامها الجنوبي.

◘ الجزائر بهذه الخطوة تتجه إلى مراجعة توازناتها وتقديم ضمانات للمجموعة الأوروبية بالحفاظ على مصالحها الإستراتيجية

وجاء في البيان، الذي بثه التلفزيون الحكومي في نشرته الرئيسية مساء الاثنين، أن “وسائل إعلام دولية تناولت مؤخرا معلومات مفادها تنفيذ تمرين تكتيكي مشترك جزائري – روسي للقوات البرية في إطار مكافحة الإرهاب بجنوب البلاد، وفي هذا الصدد فإن وزارة الدفاع توضح أن هذا التمرين العسكري المشترك الذي كان مبرمجا ضمن نشاطات التعاون مع الجيش الروسي في إطار مكافحة الإرهاب، لم يتم إجراؤه”.

وأضاف “جميع التمارين العسكرية مع الجانب الروسي أو مع أي شريك آخر يتم الإعلان عنها من قبل الوزارة فقط”، في إشارة إلى أن المعلومة من مشمولات الهيكل الوزاري دون سواه، وعدم الاعتداد بالتقارير المتداولة من طرف مختلف الدوائر.

ولم يوضح البيان أسباب عدم إجراء التمرين المبرمج منذ عدة أشهر من طرف قيادة المؤسستين العسكريتين في البلدين، والذي يندرج في إطار برنامج تعاون عسكري مفتوح بين البلدين، خاصة وأن القرار تزامن مع بروز سياق إقليمي ودولي يخيم عليه الصراع بين روسيا وأوروبا حول أوكرانيا.

وقالت أوساط سياسية جزائرية إن هذا التراجع كان متوقعا لعدة اعتبارات، منها الرسائل التي وصلت إلى النظام من الولايات المتحدة، وكان بعضها علنيا من خلال تصريحات أدلى بها أعضاء في الكونغرس، وبعضها الآخر تم عبر القنوات الدبلوماسية، وإن مضمون هذه الرسائل يشي بأن واشنطن تحذّر من أن الاستمرار في تعميق التعاون مع روسيا ستكون نتائجه في غير صالح الجزائر.

وأشارت هذه الأوساط إلى أن الاتفاقيات التي أبرمتها الجزائر في مجال الغاز مع دول أوروبية قدمت مقابلها تعهدات بالابتعاد عن روسيا، وخاصة عدم اللجوء إلى تسييس ملف الغاز وعدم اعتماد أسلوب الضغط والابتزاز مثل ما حصل مع إسبانيا والمغرب وأيضا مع فرنسا بالتفكير في اتفاق مشروط معها يلزم باريس بالاعتذار عن ماضي استعمارها للجزائر ودفع تعويضات، مستغلة في ذلك حاجة فرنسا إلى الغاز.

ورغم أن التمرين العسكري المذكور كان مدرجا في إطار تجريب الأداء والمهارات في مجال محاربة الإرهاب، ضمن تضاريس صحراوية، ولم يكن تعداد الوحدة الروسية يتعدى 80 عنصرا، إلا أنه لفت انتباه الدوائر العسكرية والإستراتيجية في المنطقة، كما أثار قلق نخب سياسية وإعلامية في المجموعة الأوروبية.

وكانت الكثير من وسائل الإعلام الدولية، ومن بينها الروسية، قد أعلنت منذ عدة أسابيع عن “تنظيم الجيشين الجزائري والروسي مناورات مشتركة في محافظة بشار بأقصى الحدود الجنوبية الغربية للبلاد، في النصف الثاني من شهر نوفمبر الجاري”.

ويبدو أن الجزائر بهذه الخطوة تتجه إلى مراجعة توازناتها الدبلوماسية، بشكل يضمن للمجموعة الأوروبية الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية، وذلك بتقليص التعاون العسكري مع روسيا.

وبات التمدد الروسي في المنطقة مصدر قلق متصاعد للأوروبيين، خاصة بعد تزايد موجة الغضب الأفريقي تجاه التواجد الفرنسي في بعض الدول الأفريقية، مقابل تغلغل مجموعة فاغنر الروسية في مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو.

◘ المناورات التي كانت مبرمجة بين الجزائريين والروس في محافظة بشار تمثل تهديدا للمصالح الإستراتيجية الأوروبية، كونها تسمح بنقل النفوذ الروسي العسكري إلى حيّز الجغرافيا الأوروبية

وأزعج التقارب الجزائري – الروسي في الآونة الأخيرة الدول الغربية، وهو ما تجلى في بروز أصوات أوروبية وأميركية تدعو إلى معاقبة الجزائر ومراجعة العلاقات معها، على خلفية تعاونها العسكري مع موسكو، وإبرام صفقات تسليح ضخمة ستوظف في تمويل الخزينة الروسية بشكل يسمح لها بمواجهة العقوبات والاستمرار في الحرب ضد أوكرانيا وتهديد الأمن الأوروبي.

وإن لم يوضح بيان الجيش الجزائري ما إذا كان الأمر متعلقا بإلغاء المناورات أو تجميدها، فإنه يمهد لتحول لافت في موقف الجزائر من ضمان المصالح الأوروبية، كما أنه لا يستبعد فرضية ممارسة القوى الغربية لضغوط عليها في هذا الشأن، وفي جميع الحالات يعتبر لجما للتمدد الروسي في المنطقة.

وتساءل مراقبون لشؤون المنطقة عن مدى قدرة الجزائر على الصمود في وجه الضغوط، وذلك في ظل التقاطع الصعب بين حاجة موسكو إلى حليف قوي في المنطقة عبر بوابة التعاون العسكري والتسليح، وبين حاجة الأوروبيين إلى شريك موثوق لتزويدهم بالغاز الذي تزداد حاجتهم إليه بشكل متزايد.

وستكون الزيارة المنتظرة للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى روسيا قبل نهاية العام الجاري معيارا حقيقيا لقياس المسار المفاجئ للعلاقات الجزائرية – الروسية، وستجلي أكثر حقيقة الخلفيات والدلالات الكامنة وراء عدم إجراء المناورات العسكرية المذكورة، إن كان تكتيكا عارضا أم خطوة في مسار جديد.

ويبقى موعد الزيارة كلمة سر في السياق المستجد، خاصة وأن الإعلان عن إلغاء المناورات سبقه تصريح للسفير الروسي لدى الجزائر فاليريان شوفايف، شدد فيه على استمرار التنسيق والتشاور بين الطرفين لإنجاح الزيارة دون تحديد موعد، مما يعطي الانطباع بوجود فرضية معاكسة قد تكون إلغاء أو تأجيلا لا يخدم طموح المتحمسين لتوطيد العلاقات بين البلدين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: