الغطرسة عدو فرنسا الأول وليس “الوحش” الروسي

ماموني

هناك درس لم تستوعبه فرنسا بشكل جيد على جميع المستويات. في أكتوبر عام 2021، حين استضافت باريس القمة الأفريقية – الفرنسية، قائلة إن القمة مكرسة لشباب أفريقيا وفرنسا. وتمت دعوة المجتمع المدني الأفريقي من مثقفين وأكاديميين ونشطاء ورجال الأعمال ومدونين وفنانين، كان الهدف حينها وضع أسس جديدة للعلاقات بين فرنسا والقارة الأفريقية. لكن، تبين من خلال النتائج لاحقا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومن خطط معه لهذه القمة، قد أعادوا تكرار نفس التصريحات وتدوير نفس الأفكار عن النوايا الحسنة، ما أظهر عجز فرنسا عن التواصل الحقيقي مع الجيل القادم من القادة الأفارقة لبناء مستقبل مشترك ومصالح متبادلة، ليتضح لاحقا أن النخب الأفريقية أكثر ذكاء وأكثر تعليما وأقل تأثرا بتراجع نفوذ فرنسا في بلدانها.

العالم لن يقبل اليوم شكوى ماكرون من تهميش فرنسا، ووصفه مشروع روسيا بالـ”متوحش”؛ ماذا تسمي فرنسا مشروعها الذي دام لعقود طويلة في غرب وشمال أفريقيا، وكيف يعقل أن تصف الروس بالدب المتوحش، وهي تستعمل سلاح التأشيرات للضغط والابتزاز ومحاولة السيطرة على القرار السيادي للدول.

رغم خسارة فرنسا قوتها داخل القارة الأفريقية، مازالت وفية لجذورها الاستعمارية، متجاهلة وبغطرسة كبيرة قوى الشباب الأفريقي الذي قلب المعادلة القديمة بإصراره على بناء أفريقيا جديدة عنوانها الحكم الرشيد والمؤسسات الديمقراطية القوية.

◘ انضمام عدد من الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية إلى مجموعة الكومنولث، هو أفضل ما حدث لتلك الدول، بدل الارتهان إلى ثقافة ولغة ودولة لم تستطع تطوير منتجها الثقافي والعلمي والاقتصادي والسياسي

وكلما زادت من جرعة الاستعلاء وإنكار الواقع، كلما تآكل نفوذ فرنسا السياسي وتآكلت معه مكانة شركاتها الاقتصادية، في عالم معولم تنتشر فيه تحديات ليس آخرها المناخ والإرهاب والهجرة.

الاتهامات الأخيرة التي وجهها ماكرون إلى روسيا بتغذية دعاية مناهضة لفرنسا في أفريقيا خدمة لطموحها الذي وصفه بـ”المتوحش” في دول أفريقية مضطربة، وساهم في تراجع النفوذ والتأثير الفرنسي في السنوات القليلة الماضية، لا يعدو كونه تبريرا واهيا تجاوزته الأحداث، لأن الأصل في الحكاية أن باريس نفسها دولة استعمارية مازالت تمارس سياسات خارجية استعلائية تجاه أفريقيا بنفس الأساليب القديمة.

أقصر الطرق بالنسبة إلى ماكرون وصناع السياسة في فرنسا للتنفيس عن الضغط وتبرير النفوذ المتراجع، هو إلقاء اللوم على القوى التي تعمل على توسيع نفوذها في أفريقيا، والإصرار على اتهامها بأنها تفعل ذلك للإضرار بفرنسا وبلغتها ونثر بذور الشك فيها، والأهم من كل ذلك أنها تسعى لتحقيق مصالح بعينها.

اتهامات تبدو غريبة، فمن من بين الدول لا يسعى للعمل على تلبية مصالحه؟ لكن، هذه ليست النقطة المهمة الوحيدة. ما يتغافل عنه الرئيس الفرنسي، هو أن الدول الأفريقية بدت أكثر جرأة وحماسة في الدفاع عن مصالحها أمام الآخرين، وهي تقدم الفرص للدول التي تنتهج سياسة رابح – رابح.

الاتهامات التي يوزعها ماكرون اليوم ليست الطريقة المثلى التي بواسطتها ستعالج فرنسا تراجع نفوذها في قارة كانت تعتبرها حديقتها الخلفية وممنوع الاقتراب منها. الواقع أن روسيا والصين والولايات المتحدة والمملكة المتحدة تعمل على تعزيز نفوذها، كل بطريقته وأدواته. وليس على باريس إلا أن تخرج من منطقة الاسترخاء والتكاسل وتعمل على ابتكار حلول عملية لفشل إستراتيجياتها التي بقيت حبيسة فترة الحرب الباردة وما قبلها.

تم إجبار فرنسا على الخروج من مالي وبوركينا فاسو، وبدا أنها تفقد الدعم الشعبي في أماكن أخرى من منطقة الساحل والصحراء. ففي يوليو الماضي انضم اثنان من أعضاء الفرنكوفونية، هما غابون وتوغو، إلى الكومنولث في القمة التي تعقد كل سنتين في كيغالي، لتصبح أول مستعمرات فرنسية سابقة تنضم إلى الكومنولث الناطق باللغة الإنجليزية، والذي يضم 54 عضوا. وكان قد تم قبول دول أخرى لم يسبق أن كانت ضمن المستعمرات البريطانية، مثل موزمبيق في عام 1995، ورواندا في عام 2009.

أيضا، مجموعة فاغنر الروسية الخاصة متواجدة اليوم في عدد من الدول الأفريقية من بينها جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، وليس بمقدور فرنسا عمل شيء أمام هذا المعطى سوى التعامل معه كواقع جيوسياسي، يحتاج إلى عقلية وبرامج تتجاوز ما هو موجود ومعمول به في الدوائر السياسية ومراكز التفكير الفرنسية الحالية.

إذا كان صاحب القرار الفرنسي لم يستوعب بعد حقيقة هذه المتغيرات، فهذه انتكاسة حقيقية لباريس، ليس فقط بسبب ما حدث من تراجع على المستوى الثقافي والسياسي والميداني، بل بسبب غياب التفكير الإستراتيجي الاستشرافي القادر على قراءة المتغيرات عبر عدد من المؤشرات قبل حدوثها.

ماكرون يحصد اليوم ما زرعته السياسة الفرنسية عبر عقود، والتي جعلت من الفرنكوفونية اليد الثقيلة للتدخل الفرنسي في دول غرب أفريقيا.

◘ رغم خسارة فرنسا قوتها داخل القارة الأفريقية، مازالت وفية لجذورها الاستعمارية، متجاهلة وبغطرسة كبيرة قوى الشباب الأفريقي الذي قلب المعادلة القديمة بإصراره على بناء أفريقيا جديدة

انضمام عدد من الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية إلى مجموعة الكومنولث، هو أفضل ما حدث لتلك الدول، بدل الارتهان إلى ثقافة ولغة ودولة لم تستطع تطوير منتجها الثقافي والعلمي والاقتصادي والسياسي بشكل يخدم مصالح الطرفين. دول كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي وشاركت الفرنسيين لغتهم، لكنها بقيت لعقود طويلة تنتظر من الفرنسيين المساهمة في تعزيز التنمية في بلدانها دون جدوى. إذا، ما المانع أن تجرب حظوظها مع لغة وثقافة وعقلية يتم بواسطتها غزو الفضاء والعقول والأسواق؟

أين كان التفكير الإستراتيجي الفرنسي في ذروة التوترات بشأن دور فرنسا في الإبادة الجماعية في عام 1994، وأدى لاحقا إلى انضمام رواندا إلى الكومنولث عام 2009؟ استطاع الروانديون حينها أن يتخذوا رد فعل حاسم تجاه العلاقات المتوترة مع فرنسا، واختاروا التحول إلى دولة ناطقة باللغة الإنجليزية، مستبدلين الفرنسية بالإنجليزية كلغة ثانية تدرس في المدارس ومتوجهين نحو العالم الأنغلوساكسوني.

كان الاعتقاد بأن باريس ستجزع من تحرك توغو والغابون، لكن يبدو أن هناك من يفسر الأمور بطريقة تخفف من وقع الحدث، حيث تصر بعض الدوائر السياسية والأكاديمية على القول إن الرغبة التي تبديها بعض الدول الأفريقية للتحلل من الفرنسية هي لاعتبارات تجارية واقتصادية أكثر منها انعتاقا من سياسة فرنسية يغلب عليها الاستعلاء وعدم المرونة.

الحقيقة باختصار شديد أن باريس لا تريد، أو هي عاجزة، عن التنازل عن إرثها الاستعماري. والمسؤولون في قصر الإليزيه عاجزون عن إدراك أن المتغيرات الجيوسياسية التي حدثت على مراحل، كان لا بد أن تكون نتيجتها ما يرونه اليوم بأم أعينهم من تفكك في العلاقات مع الدول الأفريقية.

فرنسا التي يطاردها ماضيها الاستعماري في القارة السمراء، عاجزة بسبب كبريائها الفارغ عن إجراء تحليل علمي للوضع وتطوير سياسة تعود بالفائدة على طرفي العلاقة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: