فيلم وثائقي فرنسي ومعرض سويسري يستحضران «حي الدعارة» في الدار البيضاء خلال حقبة الاستعمار
الطاهر الطويل
ما إن مضت بضعة أسابيع على قيام القناة الفرنسية الثالثة ببث فيلم وثائقي حول حي الدعارة الشهير باسم “بوسبير” والذي أنشأته السلطات الاستعمارية الفرنسية في قلب مدينة الدار البيضاء، بين عامي 1923 و1955، حتى أعلنت جامعة جنيف السويسرية عن تنظيم معرض استعادي حول “رمزية المكان المادي الذي يؤرخ لعاملات الجنس المغربيات”، وهي التظاهرة الفنية التي انطلقت أمس الثلاثاء، وتستمر إلى غاية 20 يناير 2023.
هل يعد الحدثان مجرد مصادفة، خاصة وأنهما يدوران حول موضوع واحد يتعلق بالمغرب؟ وما خلفيات ربط صورة هذا البلد بـ “تجارة الجنس”؟ ولماذا يحدثان في هذا الوقت بالذات؟ يتساءل مراقبون.
“إنها إحدى أحلك الصفحات في التاريخ الاستعماري”، وفق تعبير البعض، وتشير إلى توظيف النساء في الدعارة، علماً أن جلهن كنّ مجبرات على ذلك، حيث يُعتقلن، ويدفعن إلى ممارسة الجنس مع الجنود والمقيمين الفرنسيين في فضاء كبير محكم الحراسة، لكنه منفتح على السماء.
ورد في تقديم الفيلم الوثائقي الفرنسي عن التاريخ الاستعماري في المغرب أن حي الدعارة “بوسبير” كان أشبه بالقلعة، إذ توضع “عاملات الجنس” رهن إشارة “الإنسان الأبيض والأشقر”، كناية عن الفرنسيين. وكانت “العاملات” يخرجن مرة واحدة فقط في الأسبوع من تلك القلعة.
تقول مراجع إن بعض “قاطنات” ذلك الحي جئن بمحض إرادتهن، في حين أن “الثلثين” منهن تقريباً اعتُقلن وأجبرن على ممارسة الجنس مع الفرنسيين، وكنّ يخضعن لنظام طبي صارم من أجل الحيلولة دون تنقل الأمراض الجنسية.
وقدّرت مصادر عدد القاطنات الاعتيادي في حي “بوسبير” بين 450 و680 فتاة. وكانت أعمارهن تبتدئ من 12 سنة فما فوق. ويرجع أصل التسمية إلى الدبلوماسي الفرنسي “بروسبير فيريو” الذي كان يمتلك المساحة التي أقيم عليها “المبغى القسري”.
وإذا كانت هذه “القلعة الجنسية” قد بُنيتْ انطلاقاً من رغبة السلطات الاستعمارية في “مكافحة انتشار الأمراض التناسلية”، فإن الرؤية الخفية التي حكمت هذا القرار تلخصها العبارات التالية: “لاحتلال هذه الأراضي وإدارتها، عليك إحضار رجال أو جنود أو إداريين. ونحن نستخدم هذا العمل الدنيء للوصول إلى مزايا معينة، من بينها جعل الغرابة الجنسية في متناول يدك”، كما جاء في تقديم الفيلم الوثائقي الفرنسي، ويضيف: “كأنه من الضروري للغاية، الهيمنة على الأجساد لإظهار هيمنتنا على البلاد”. ودليل ذلك أن فرنسا كررت التجربة نفسها في أكثر من بلد بسطت نفوذها الاستعماري عليه.
الهدف من هذا القرار كان مزدوجاً: توفير المتعة الجنسية لجنود وموظفي وأعوان السلطة الاستعمارية، وفي الوقت نفسه تشويه صورة المغاربة والمغربيات وإهانة كرامتهم والتأثير على صورة المقاومة المحلية للاحتلال الفرنسي.
وتتكرر الرغبة في تشويه المغرب مع بث الفيلم الوثائقي الفرنسي وإقامة المعرض السويسري خلال فترة متقاربة، كما يلاحظ مراقبون، مسجلين وجود “حرب باردة خفية” تشنها الحكومة الفرنسية على المغرب، على خلفية الفتور في العلاقات بين البلدين، والتي تجلت أخيراً في حرمان الآلاف من المغاربة من تأشيرة “شينغن”، وفتح الأذرع لأنصار جبهة “البوليساريو” في برلمان باريس، فضلاً عن الحملة الإعلامية المتواصلة ضد المغرب نتيجة الدعوة التي أطلقها نشطاء من أجل إلغاء اللغة الفرنسية في برامج التعليم المغربية وتعويضها بالإنكليزية.
وكان لافتاً أن صحيفة “لوموند” خصصت منذ يومين حيزاً كبيراً لموضوع حي “بوسبير”، حيث أوفدت مراسلتها في المغرب، أويللي كولاس، إلى الدار البيضاء، فكتبت “هنا الجميع يعرف اسمه، لكن يبدو أن لا أحدَ يريد أن يتذكره. الخوف بلا شك من إعادة أشباح الماضي. بعد ستة وستين عاماً من استقلال المغرب، ما الذي تبقى في الذاكرة الجماعية لبوسبير، هذه المنطقة المخصصة للدعارة التي صممتها الإدارة الفرنسية تحت الحماية؟”.
ولاحظت الصحافية نفسها أن كلمة “بوسبير” أو البنت “البوسبيرة” تستخدم اليوم كنوع من الإهانة, وأضافت أن الكثيرين يفضلون غالباً التزام الصمت بشأن ما كان قائماً بين عامي 1923 و1955، أي أكبر منزل للدعارة في الهواء الطلق في العالم”.
واستطردت الصحافية الفرنسية قائلة: “مع ذلك، لا تزال بقايا تلك الذكرى موجودة، في مكان ما في حي مرس السلطان، أحد أقدم المناطق في العاصمة الاقتصادية للمغرب. وسط متاهات الأسواق، ترتفع جدران بيضاء شاهقة، مثل قلعة بها أسرار محفوظة جيداً. لا يوجد نقش أو إشارة تشير إلى ماضي هذا المكان. علاوة على ذلك، من الأفضل عدم نطق اسم “بوسبير” هنا، يحذر بائع متجول أمام البوابة التاريخية للمنطقة المحجوزة سابقاً، يفضل الناس قول “الدائرة السابعة عشرة”، ويسارع إلى التأكيد: “ما من شك في أن تلك “الخدمة” لم يعد لها وجود منذ زمن بعيد، فالمكان نظيف”.
ملاحظ فضّل عدم ذكر اسمه علّق على ذلك بالقول: “يفضل الإعلام الفرنسي حالياً النبش في صفحات قذرة للاستعمار، كمحاولة للتشويش على جهود التنمية والنجاحات السياسية والدبلوماسية التي يحققها المغرب باستمرار، وللإساءة كذلك إلى ذكرى المقاومة والاستقلال التي احتفل بها المغاربة منذ بضعة أيام فقط”.