أحجم الرئيس الجزائري عن تلبية دعوة نظيريه التونسي والفرنسي لحضور قمة الفرنكوفونية التي انعقدت مؤخرا في مدينة جربة التونسية، رغم العلاقات المميزة التي تجمع القادة الثلاثة في الفترة الأخيرة، وهو ما ينطوي على موقف جزائري يكرس القطيعة المتصاعدة تجاه التكتل الفرنكوفوني، خاصة بعد إقرار اللغة الإنجليزية في المدارس والجامعات بداية من الموسم الجاري.
وغاب الرئيس عبدالمجيد تبون عن قمة الفرنكوفونية مفضلا في ذلك المشاركة في افتتاح مونديال قطر، وسط حديث عن خطوات جزائرية جديدة للتحرر من الهيمنة الثقافية واللغوية الفرنسية.
ورغم العلاقات السياسية التي تربط تبون بكل من الرئيسين قيس سعيد وإيمانويل ماكرون، إلا أن موقفه عبّر بشكل واضح عن توجه بلاده إلى الفصل بين المصالح السياسية والخيارات اللغوية والثقافية، رغم الالتباس الذي خيم عليها طيلة العقود الماضية.
ويرى متابعون أن المنظمة الدولية للفرنكوفونية فقدت حظوظها في ضم الجزائر إلى صفوفها، برحيل نظام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة عام 2019، الذي لم يتوان خلال حقبة تقاربه مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وحضوره في قمة بيروت، عن تهيئة الرأي العام الشعبي والرسمي في بلاده للانضمام إلى المنظمة.
الخيارات المتاحة للجزائر وتوجهها إلى رسم تحالفات جديدة شجعاها على التمهيد لفك الارتباط التاريخي مع فرنسا
وتتجه النخب الجديدة الحاكمة في الجزائر إلى طي صفحة الانضمام والمضي قدما في اعتماد النموذج الأنجلوسكسوني كخيار لغوي وثقافي، من خلال اعتماد مسار متدرج جسدته الإجراءات المتصلة بإدراج اللغة الإنجليزية في المدارس والجامعات بداية من الموسم الدراسي الجاري.
ويرى المتابعون للشأن الجزائري أن انتفاضة الشارع الجزائري في عام 2019، وتنحي الرئيس الراحل بوتفليقة عن السلطة بما كان يمثله من حلف غير معلن للمكون الثقافي الفرنسي في الجزائر، سمحا بصعود نخب في هرم المؤسسة العسكرية المحركة لمفاصل الدولة خلف الستار، تدعو إلى التحرر من النفوذ الفرنكوفوني في بلادها، وبدأت ملامحه تتأكد مع تغيير اللغة الثانية في شعارات ووثائق المؤسسة إلى الإنجليزية.
ويبدو أن القيادة السياسية المتحالفة مع العسكر تسير في نفس الاتجاه، ففي خطوة تمهد للقطيعة بينها وبين المنظمة الدولية للفرنكوفونية يجري التخلص من اللغة الفرنسية تدريجيا من المؤسسات الحكومية، على غرار الوزارات والمحافظات، وترافق ذلك مع تجدد خطابات وشعارات السيادة والتحرر من النفوذ التاريخي للثقافة الفرنكوفونية في البلاد.
ورغم غياب الجزائر عن العضوية الرسمية للجزائر في هذه المنظمة، فإن تقارير فرنسية تتحدث عن استخدام ثلث الجزائريين للغة الفرنسية إلى جانب مزاحمتها للغة الرسمية الأولى في البلاد ضمن المؤسسات الرسمية، في تلميح إلى اعتبارها أمرا واقعا لا يحتاج إلا إلى قرار سياسي فقط، لم يتخذ منذ استقلال البلاد لاعتبارات سياسية وأيديولوجية.
وتحمل اللغة الفرنسية في الجزائر رمزية سياسية تعود إلى حقبة الاستعمار (1830 – 1962)، حيث عملت السلطات الفرنسية على طمس ثوابت الشخصية الجزائرية لغويا وثقافيا مقابل التمكين للغة الفرنسية، الأمر الذي خلق عداوة أزلية بين الطرفين امتدت إلى حقبة ما بعد الاستقلال الوطني، حتى في ظل دور اللوبي الموالي لفرنسا.
دوائر سياسية وإعلامية فرنسية حذّرت مما وصفته بـ”تمرد” جزائري على الولاء اللغوي والثقافي التاريخي
وتمثل المنظمة الدولية للفرنكوفونية فضاء للمستعمرات الفرنسية القديمة، ولذلك تغلب عليها المقاربة التاريخية والنفوذ السياسي عبر بوابة اللغة والثقافة، الأمر الذي أبقاها في سياق ضيق لا يمتد إلى تطوير علاقات تعاون وتكامل ندي بين مختلف الأعضاء عكس بعض التكتلات الأخرى المماثلة.
وحذّرت دوائر سياسية وإعلامية فرنسية مما وصفته بـ”تمرد” جزائري على الولاء اللغوي والثقافي التاريخي، وما يحمله من دلالات سياسية توحي بتخلّص البلاد من النفوذ الفرنسي، وأن التقارب المسجل بين القيادتين في الجزائر وباريس لم يكفل للرصيد الناعم الصمود أمام ثورة كامنة داخل النخب الجزائرية الحاكمة.
وهو ما تجسد في عدم دعم بيان الجزائر الذي توج القمة العربية الواحدة والثلاثين، المنعقدة مطلع الشهر الجاري، للقمة الفرنكوفونية بتونس، رغم تأييده لمختلف المواعيد والاستحقاقات التي تحتضنها مختلف العواصم العربية، الأمر الذي مهد لتملص الجزائر من موقفها السابق تجاه المنظمة.
ويبدو أن الخيارات السياسية والدبلوماسية المتاحة للجزائر حاليا، وتوجهها إلى رسم تحالفات جديدة مع روسيا والصين وتركيا وطلبها الانضمام إلى منظمة “بريكس”، شجعتها على التمهيد لفك الارتباط التاريخي مع فرنسا، عكس القيادات السياسية السابقة التي كانت ترى في قمم الفرنكوفونية فرصة لكسر الحصار الذي فرضته حقبة العشرية الدموية (1990 – 2000).
ويظهر أن التداعيات التي أفرزتها الجائحة الصحية العالمية وأزمة أوكرانيا أتاحت للجزائر فرصة إعادة ترتيب أوراقها بشكل مريح، يقربها من ربح معركة شعبوية في الداخل عبر الترويج لكسب جولة التغيير السياسي وتجسيد خطاب السيادة الوطنية وتحقيق ما يوصف بـ”الاستقلال” الثاني للبلاد.