يظهر النظام الجزائري اهتماما لافتا بتعزيز الروابط مع المجتمع المدني، مع تآكل الحاضنة الشعبية للأحزاب التقليدية، لاسيما تلك الموالية للسلطة. ويرى متابعون أن هذا التوجه نحو المجتمع المدني يعود إلى وعي السلطة بتعاظم دور هذا المكون وقدرته على التأثير في المشهد العام في البلاد.
أولت السلطات الجزائرية أهمية قصوى لجلسات المجتمع المدني المنعقدة في العاصمة الجزائر، في سياق تهيئته لأن يكون وعاء اجتماعيا بديلا عن الحاضن السياسي والحزبي.
ويعكس هذا الاهتمام حرص النظام الجزائري على بناء علاقة شراكة مع المجتمع المدني، تكون منصة لمرور الرئيس عبدالمجيد تبون إلى ولاية رئاسية ثانية، بعيدا عن التحالفات التقليدية مع الأحزاب السياسية، وهو ما يطرح نقاط استفهام حول مستقبل وتصنيف المكونات السياسية والاجتماعية بالبلاد في المستقبل.
وألمح الحضور النوعي لرموز ومؤسسات الدولة، في الجلسات الوطنية التي عقدها المرصد الوطني للمجتمع المدني، إلى الرهان الذي تعول عليه السلطة، من خلال الآلية الجديدة، لتجسيد الالتزامات التي تعهد بها الرئيس تبون للشعب الجزائري خلال حملته الانتخابية.
وحمل الخطاب السياسي المتداول في الجلسات المذكورة، تعويل السلطة على قوة المجتمع المدني، لبناء شراكة جديدة تغنيها عن الدور الذي كانت تلعبه القوى السياسية والحزبية خلال الحقبة الماضية، الأمر الذي يعتبر سابقة أولى في تاريخ البلاد وفي مسار التعددية في البلاد، كما يطرح استفهامات جدية حول دور ومكانة ما يعرف بأحزاب الموالاة التي تسير نحو التهميش، بسبب تغير إستراتجية السلطة في تعبئة المجتمع.
وأكد مشاركون في الجلسات الوطنية للمجتمع المدني “الدور المحوري للمجتمع المدني في بناء الجزائر الجديدة بكل مقوماتها القائمة على أخلقة الحياة العامة، وإصلاح منظومة التسيير وفق الحكامة الرشيدة، وتحقيق النمو الاقتصادي القائم على الإبداع وخلق الثروة، وتعزيز مكانة الجزائر على الصعيد الدولي”.
واعتبر مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالأرشيف والذاكرة الوطنية عبدالمجيد شيخي أن “المجتمع المدني وباختلاف فعالياته فرصة لخلق نخبة، من خلال الاستثمار في القواسم المشتركة للوصول إلى توافق حقيقي”.
وشدد شيخي على “بذل الجهود في إطار العمل الجماعي لتجسيد الأهداف المرجوة من المجتمع المدني، الذي يوليه رئيس الجمهورية عبدالمجيد تبون اهتماما كبيرا”.
وأكد مدير المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية الشاملة عبدالعزيز مجاهد “وجود طاقات وكفاءات في الجزائر قادرة على إحداث فارق في المجتمع انطلاقا من ترقية الحس المدني، وترسيخ قيم المواطنة التي تمثل أساس المجتمع المدني، إلى جانب تكوين أسس الوحدة الوطنية”.
وتوحي المفردات التي وردت في تدخلات ممثلي السلطات العليا للبلاد بمعالم خارطة الطريق التي تريد اعتمادها في المستقبل، بالاعتماد على شراكة مع المجتمع المدني، خلفا للتحالفات التقليدية التي كانت تقام في السابق بين رئيس الجمهورية وبعض القوى الحزبية.
ورغم انحدار الرئيس تبون من حزب جبهة التحرير الوطني، إلا أنه خاض الانتخابات الرئاسية كمرشح حر، ولم يعتمد في حملته الانتخابية على الأحزاب التي عرفت ارتباكا في الانتخابات المذكورة، بسبب عدم وضوح الرؤية لدى قياداتها.
وباستثناء مشاورات سياسية وصفت بـ”الشكلية ” حول الدستور ومشروع لمّ الشمل، فإن علاقة تبون بالأحزاب السياسية تبقى فاترة إلى حد الآن، ما يجسد رغبة السلطة في تجاوزها والاستعانة بالمجتمع المدني كشريك لها في المستقبل، وهو ما يرشحه ليكون الوعاء الاجتماعي الأول لتبون في الذهاب إلى ولاية رئاسية ثانية.
وكرست نتيجة الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي أفرزت المستقلين كقوة سياسية ثانية في البرلمان بعد جبهة التحرير الوطني، رغبة السلطة في إعادة ترتيب التوازنات السياسية بشكل يمنح الأولوية للمجتمع المدني، الذي حظي مرشحوه بدعم لافت في الانتخابات المذكورة، بدعوى “توسيع المشاركة الشعبية وتشجيع الشباب على الانخراط في الممارسة الديمقراطية”.
ومنذ مجيء الرئيس تبون إلى قصر المرادية في أواخر العام 2019، تم اعتماد منصب مستشار الرئيس للمجتمع المدني والجالية الجزائرية بالخارج، الذي شغله في وقت سابق النائب البرلماني نزيه برمضان، وتم السماح باعتماد الآلاف من الجمعيات المحلية والوطنية، فضلا عن التنظيمات الأهلية والمهنية بدعم السلطة.
وعمدت قوى سياسية في وقت سابق إلى اختراق الفضاءات الشبابية والطلابية بواسطة جمعيات ومنظمات، لمساندتها في تعبئة وحشد الشارع خلال الاستحقاقات الانتخابية، ويظهر ذلك بشكل واضح لدى الأحزاب الإخوانية، غير أن ذلك ذاب أمام زخم الحشد الذي تقوم به السلطة حاليا، خاصة وأنها وضعت ذلك ضمن أولوياتها في البرنامج السياسي للرئيس تبون.
وتتجه بعض الأحزاب السياسية إلى الاصطفاف خلف إفرازات المرحلة الحالية، خاصة تركيبة المرصد الوطني للمجتمع المدني، للحفاظ على تواجدها في مشهد السلطة، حيث أوعزت جبهة التحرير الوطني لمناضليها بإطلاق تنظيمات أهلية لتكون عينها في التحالف الجديد.
وتذهب طموحات الحلفاء الجدد ليكونوا أداة الدبلوماسية الأهلية الداعمة للدبلوماسية الرسمية، في حين يسجل غياب الطبقة الحزبية عن المواعيد الأساسية، وهو ما تجلى في دعوة متدخلين في الجلسات إلى “ضرورة تفعيل دبلوماسية المجتمع المدني وتجنيدها، لتكون داعمة للدبلوماسية الرسمية في المرافعة لصالح المواقف الوطنية والدفاع عنها”.
وحث في هذا الشأن الأكاديمي بوزيد بومدين على “نشر ثقافة المرافعة لصالح مواقف الجزائر تجاه القضايا الدولية والإقليمية وشرح خلفياتها، والاستفادة من التجارب الدولية لتطوير المجتمع المدني حتى يكون حصنا منيعا في الدفاع عن ثوابت الأمة ومرجعياتها”.
وأكد الخبير في الشؤون السياسية والأمنية محند برقوق “أهمية تمكين المجتمع المدني من تقديم مقترحاته ومبادراته حول سبل مواكبة ومعالجة أبرز التحديات الراهنة، بما يتيح له فضاء واسعا للعب دوره كشريك أساسي في تسيير الأزمات ومواجهة التحديات إلى جانب السلطات الرسمية، وهو ما يشكل دبلوماسية شعبية غير رسمية داعمة ومؤيدة للعمل الرسمي”.