من يذكر من المتتبعين للشأن الديني ببلجيكا الدور الذي كانت تلعبه الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا في تقديم خطاب ديني وسطي يقطع الطريق أمام خطاب الغلو والتشدد ويدحضُ أباطيله ؟ من يذكر كيف كانوا يكيلون التهم للمسؤولين عن الشأن الديني للإطاحة بهم ؟
من يذكر كيف أن تهما عدة وجهت للمسؤولين كانت أثقلها: تهمة التخابر؟
إن الخطأ طبيعة بشرية، وفطرة إنسانية، لا ينكره على بني آدم إلا مَن لا عقل له أو أدنى معرفة بطبائع الإنسان.
يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطَّاءٌ، وخير الخطائين التوابون))؛ [رواه الترمذي].
ولكن ليس كل خطأ يقابل بعقوبة أو بنقد لاذع، إلا إذا كان تعديًا على شرع الله عز وجل، ويجب وضع هذا جيدًا في الاعتبار عند تناول الأفراد بالنقد والتجريح.
فقد انتشرت ظاهرة النقد الهدام بصورة لافتة بين المهتمين بالشأن الديني ببلجيكا، وأصبح النقاد السلبيون يوجدون في كل مكان، شغلهم وهمهم الوحيد هو توجيه وإلقاء اللوم على الآخر، وانتقاده في كل شيء حتى في حياته الشخصية. فالناقد السلبي يوجه دائمًا اللوم إلى المجتمع، الدولة، الحكومة، الإعلام، الإدارة، ولا يساهم بأي شكل من الأشكال في وجود الحلول المناسبة للمشكل المطروح.
فهؤلاء النقاد الذين كان همهم الوحيد هو الاتهامات و الانتقادات السلبية للهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا كمؤسسة و كأشخاص لا يذكرون فضائل أحد ولا حسناته، بل كل همهم جمع المثالب وحشد المعايب.
لا يمر يوم بدون انتقادات سلبية، أو تعليق يضم أسلوب التجريح، وعبارات السب والشتم والقدح، إذ أصبحت هده الثقافة غير المرحب بها تسري في عروق بعض المهتمين بالشأن الديني البلجيكي .
قال الشعبي: لو أصبت 99، وأخطأت واحدة، لأخذوا الواحدة، وتركوا التسع والتسعين. «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم».
و رغم الاعمال التي قامت بها الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا من تحقيق الإستقرار و الأمن ، و تعزيز الديموقراطية على رأس القائمة ، حيث سجل حضور الدين في عدة مجالات في حياة مغاربة بلجيكا ، و إعتمد ذلك على المرجعية التراثية الوسيطة المنفتحة على الآخر ، و المبنية على نشر مبادئ التسامح و التعايش بين معتنقي كل الديانات السماوية حيث يتواجد المهاجر المغربي إلى جانب اليهودي و المسيحي في عيش آمن من دون أي عداوة أو بغضاء ، لأن الكل يتعاون لأجل بناء حلم بلد معاصر يتسع للجميع ، في إطار من السلم و المحبة و الآخاء .إلا أن النقد الهدَّام أتى مِن أولئك الذين لا يقبلون الرأي الآخر، كِبْرًا أو حسدًا، وربما جهلاً،
و ربما من الذين يحاولون فرض آرائهم على الجميع؛ فرأيهم دائمًا صواب – في اعتقادهم – لا يحتمل أدنى خطأ، يتعصبون لآرائهم، وينتقمون لأنفسهم، ويتبعون أهواءهم و أجنداتهم الخارجية .
لكن كثرة الاتهامات و الافعال التهديمية التي تعرضت لها الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا كمؤسسة و كأشخاص دفعت كل من نائب الرئيس السابق السيد صالح الشلاوي لتقديم استقالته و إيقاف العديد من البرامج و الاشغال التي كانت ستخدم الجالية المسلمة عامة و الجالية المغربية خاصة .
ورغم الصراعات الصبيانية التي قام بها بعض الاشخاص و التي كان الغرض تهديمي اكثر مما هو اصلاحي لم يتمكن أي شخص من المعارضين للهيئة التنفيذية من خلق تمثيلية او مؤسسة تجمع كل المسلمين أو القيام بنفس الخدمات التي كان يقوم بها القائمين عن الشأن الديني سابقا .
إن المتابع للشأن الديني في بلجيكا، وللخطاب الديني المنتشر وما يرافقه من أثر وتأثّر وتأثير، يرى بوضوح أزمة قوية الملامح لا تحتاج الى ذكاء أو كثير من العناء.
لقد كان الشأن الديني يعاني من أزمة كبيرة في فترة ما قبل اتهامات وزير العدل البلجيكي لممثلي الشأن الديني بالتخابر وسوء التسيير ، أزمة تمتد إلى اليوم بعدم الاعتراف بالمسجد الكبير ، و هدم كل ما بني منذ عشرات السنين بسحب وزير العدل البلجيكي الاعتراف بالهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا.
حين أسست الهيئة التنفيذية وجدت صحراء قاحلة في قلوب وعقول أغلبية شباب مغاربة بلجيكا فيما يتعلق بالشأن الديني وحقيقة المذهب المالكي ومميزاته، وجدت شبابا اعتادوا أن يأخذوا دينهم من الفضائيات التي تبث غالبا الخطاب الوهابي ومافيه من إشكالات ومن مآزق وفخاخ كارثية، دون أن يتنبهوا لها أو يعرفوا حقيقتها لأنه ليس لديهم معيار للقياس بحكم تغييب الفكر الديني السمح في المذهب المالكي والمنهج المغربي المسامح بامتياز والمتميز في العقيدة والأصول وفي مختلف شؤون الديانة ..
جاءت موجة الوهابية السلفية وارتفعت تحمل فكر التكفير والتبديع، ووجدت في شباب مغاربة بلجيكا مكانا مناسبا، فنمت بسرعة حتى بلغت مستوى ختامي كنا بيناه ضمن تقسيمنا المرحلي لذلك الفكر ولكل فكر متطرف مغال: التنظير،التكفير، التفجير.
بدأت المرحلة التفجيرية التنظيمية، بمستواها الأول الذي ساهم في سفر العديد من المغاربة الى جبهات القتال بسوريا والعراق ، ثم بلغت مستواها الثاني ، والذي تمظهر بسرعة في عمليات إرهابية و تفجيرات راح ضحيتها العديد من المواطنين سواء في تفجيرات بروكسيل او تفجيرات المطار الدولي بزافنتم مع تحدّ للدولة و عجز من السلطات الامنية، ومعلوم لمن درس كتاب فن الحرب لسون تزو وهو أقدم وأفضل وأخطر كتاب حرب أن الفوضى تستخدم لإخفاء النظام وأن الحريق من تقنيات الحرب الكبرى التي تسبق الخراب الكامل وهو فن كامل خصص له سون تزو مجالا وكان مستخدما في الحروب على مر العصور، فليست الأمور صُدفية بل تنتظم في سياق منظّم ومخطط له جيدا، وهنا لابد من وقفة تأمل وتحليل لهذه الأزمة ثم لابد من رؤية منهجية للخروج منها.
1/الأزمة: إن الأزمة الحالية والتي واكبناها منذ بدايتها متابعة وتحليلا، ليست غريبة عن تاريخ الوهابية في كل الدول التيدخلتها وخربتها، ولكن لهذه الأزمة في بلجيكا أسباب ألخصها في الآتي:
*السبب الأول: الفراغ الديني الذي يتحمل مسؤوليته بعض المغاربة الذين يعملون لمصالحهم الخاصة و لمصالح الوهابية وبعض المساجد التي أصبح همها الوحيد هو جمع التبرعات و إنشاء مشاريع لأصحابها الذين أصبحوا خبراء في بيع متراتالمربعات في الجنة ،وهذا الفراغ أدى إلى تأثر ابناء الجالية أولا بذلك الفكر ومن ثم مباشر بمن قاموا بنشره ضمن مختلفالتقسيمات السلفية.
*السبب الثاني: تغييب العلماء المغاربة والفكر المالكي وما في مذهب الإمام مالك من سماحة وعمق، ثم غياب الطاهرالتجكاني رئيس المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة” لأسباب كثيرة منها قلة وعيه بخطورة الموقف وخشيته على نفسه أوالتضييق عليه من طرف الاعلام البلجيكي و من يتعامل معهم من المغاربة .
*السبب الثالث: خطأ استراتيجي قاتل ارتكبته الدولة، ويتمثل في قراءة موضوع السلفية بشكل خاطئ تماما في اعتقادي،لأن الأمر نظر إليه على أنه عرض ناتج لا مرض قائم، وذلك لعدم دراية عميقة بالموضوع، وهكذا ظل الأمر يخضع للتسويفوالوعود وينظر إليه كنتيجة لغياب الديمقراطية، ولكنه في الحقيقة مرض فعلي يستشري في المجتمع مستغلا طاقة الكراهيةالكامنة ورغبة الكثير من المتطفلين على الشأن الديني من أصحاب الجمعيات الدينية في السير على منهج السلف وهو أمرجيد لكن منهجيته خاطئة، وكذلك كردود فعل على ما كان يفعله المتطرفون في التعهير والفساد وحرب الديانة بل إن تصرفاتبعضهم زادت جنون الكثير منهم فازدادوا إمعانا في تعديهم وتحديهم ومن خلفهم منظرون لهم ومبررون يزينون الكلام ولايعون خطورة الأمر حتى هدموا و خربوا الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا.
*السبب الرابع: قوة التمويل الخارجي، والدعم المادي واللوجستي لهذا الفكر الدخيل على بلجيكا، فنشأت الجمعيات الكثيرة ودخلت المليارات وتنظمت المجموعات تحت قيادات وتقاسمت الأدوار ثم تجمعّت وبدأت في الهجوم مستغلة بعض المحفزات فلم يعد للدولة من مهابة وصار الأمر ينبئ بكارثة، وأنا على يقين استشرافي مدعوم ببعض الأدلة الميدانية الكافية للبناء عليها أن هنالك من يتدرب ويتسلح بمناهج تخريبية لتطبيق الوهابية وهنالك خط مباشر مع السعودية و الامارات ومع التنظيمات فيقع إرسال متدربين إلى ليبيا وللقتال في جبهات القتال وآخرون يستعدون في بلجيكا ليوم الغزو المبارك والمقدس في اعتقادهم لنصرة دين الله بقوة السلاح وكذلك فعل ابن عبد الوهاب حين نصر (في وهمه) دين الله بقتل من قال لا إله إلا الله وحين نصر رسول الله بذبح آل بيته وتدمير مدينته وحجرته الشريفة.
*السبب الخامس: تعامل جمعيات دينية مع هذا التيار كان رخوا جدا أو متراخيا، والأمر يرجع فيما أراه إلى تأثر بعضهم بهذاالفكر وموالاتهم له، ولخطأ تقديري لقيمة ذلك التيار كمخزون تخريبي، أو لخطأ استراتيجي في فهم نوعية التعامل المناسبة معذلك الغزو الوهابي المدعوم بقوة، حتى أثبتت الأحداث الأخيرة أن كل ذلك كان خاطئا جدا، وعسى أن الأوان لم يفت.
*السبب السادس: الفراغ الإستراتيجي الكبير الذي حلفته الهيئة التنفيذية منذ تقديم صالح الشلاوي استقالته .
و رغم أن كل هذه الانتقادات الهدامة الا أن اصحابها لم يتمكنوا منذ سنتين من تغيير ما كانوا يروجون له أو من خلق مؤسسة موازية أخرى للهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا للظفر بتسيير الشأن الديني ببلجيكا مما يؤكد أن من اسهل الامور توجيه الضربات و الانتقادات للغير دون إمتلاك القدرة و القوة و الخبرة للقيام بما هو افضل للصالح العام و ما يخدم الجالية المسلمة ببلجيكا.