هل تملك حكومة أخنوش القدرة لمواجهة الاحتقان الاجتماعي؟
مرت سنة كاملة على حكومة عزيز أخنوش، وهي مهلة كافية لأي حكومة لكي تفهم بشكل مفصل الوضعية الاقتصادية والاجتماعية، وتمتلك مهارة التكيف مع الظروف الدولية والإقليمية، وتعيد ترتيب أولوياتها بناء على ما يمكن إنجازه، لا على ما يتم إطلاقه من شعارات.
البعض يعتقد أن الظروف الدولية والإقليمية الصعبة التي جاءت فيها هذه الحكومة، تجعل من إلزامها الشعارات الاجتماعية التي رفعتها أمرا غير واقعي، فهناك من جهة ارتفاع مهول للفاتورة الطاقية في الأسواق الدولية، وهو ما سيكلف الميزانية أكثر من 40 مليار درهم، وهناك أيضا سنة جفاف، يمكن أن تعصف بنقطتي نمو في الاقتصاد الوطني، وهو ما سيجعل القيمة المضافة التي تشكلها الفلاحة للاقتصاد المغربي تفقد 13 في المائة، ناهيك عن خسارة مناصب شغل كبيرة في القطاع الفلاحي.
لكن في المقابل، ثمة من يدفع بطرح مقابل، فحكومة أخنوش، وجدت أمامها، وبسبب نفس الظرفية الدولية والإقليمية، مؤشرات جد مهمة، فأسعار الفوسفاط قد ارتفعت في الأسواق الدولية بواقع 68 في المائة، وهو ما جعل الميزانية تستقبل أكثر من 20 مليار درهم، كما عرفت تحويلات المغاربة المقيمين في الخارج تدفقا غير مسبوق بلغ أكثر من 70 مليار درهم إلى حدود أغسطس الماضي، فيما ارتفعت مبيعات قطاع السيارات بواقع 29 في المائة، وسجلت مداخيل الجمارك ارتفاعا بأكثر من 22 في المائة، وعرفت مداخيل الضرائب هي الأخرى انتعاشا كبيرا.
معنى ذلك، أن التذرع بإكراهات الظرفية الدولية والإقليمية وأثرها على الاقتصاد، يقابل بالفرص التي استثمرها المغرب، وكانت سببا في إنعاش الموازنة، ومساعدة الحكومة، ليس فقط على الحفاظ على التوازنات الاقتصادية والمالية الكبرى، بل وأيضا تنفيذ رؤيتها لتحريك عجلة الاقتصاد وتعزيز الخدمات الاجتماعية الأساسية (التعليم، الصحة، الشغل، السكن) و«إرساء أسس الدول الاجتماعية»، كما يبشر بذلك برنامج رئيس الحكومة.
الواقع، أن الموازنة المالية التي صادق البرلمان المغربي، وهي أول موازنة مالية لحكومة السيد عزيز أخنوش منذ تعيينه رئيسا للحكومة في 11 سبتمبر 2021، فضلا عن السلوك السياسي الذي أنتجه رئيس الحكومة في التعامل مع الاحتجاجات الفئوية يوضح خلاصتين مهمتين، أولهما، أن الموازنة صيغت بمنطق مراعاة مصالح اللوبيات والشركات الكبرى المهيمنة على الاقتصاد، وأن الحكومة بذلك كشفت هويتها «الاجتماعية»، وأنها لا تمثل الطبقات الاجتماعية الوسطى والفقيرة، وإنما تخدم مصالح الكبار. والثانية، أن السياسة المعتمدة في احتواء الاحتقان، تعتمد أساسا إسكات النخب المؤثرة، ولو خارج أي منطق سياسي.
هاتان الخلاصتان، وبسبب من تفاقم الوضعية الاجتماعية وتهاوي القدرة الشرائية لأوسع شرائح المجتمع، وبشكل خاص الطبقة الوسطى، تؤكد بأن قدرة حكومة السيد عزيز أخنوش، على مواجهة الاحتقان الاجتماعي ستكون محدودة، وأن سيناريو توسع الاحتقان، سيدفع بها إلى الانهيار السريع.
ثمة خمسة مؤشرات على ذلك، أولها، أن الموازنة المالية تنكرت لكل الالتزامات الاجتماعية التي قطعتها الحكومة مع المركزيات النقابية في الحوار الاجتماعي، ولم تلتزم بأي بند من بنود اتفاق أبريل الذي تم إبرامه، مع هشاشته وكونه دون الانتظارات الاجتماعية، وهو ما يعني توقع أحد أمرين، إما حدوث طلاق بائن بين الحكومة والنقابات المقربة لها، وإما حدوث طلاق شعبي مع هذه النقابات نفسها، لأن واقع عدم التنصيص على بنود الاتفاق في الموازنة، يعني فقدان قيادات هذه النقابات لشرعيتها، إن لم تنهض للاحتجاج على سياسة الحكومة المتنصلة من التزاماتها.
هذه المؤشرات الخمسة، تنهض كلها لتؤكد واقع عدم امتلاك حكومة عزيز أخنوش لشخصية سياسية تساعدها على مواجهة أي احتقان شعبي محتمل، وذلك لسبب بسيط أن سياسة احتواء النخب، تصلح لبعض دون بعض، ولا يمكن تعميمها بسبب أنها ستجعل الحكومة مضطرة في نهاية المطاف لمعالجة المشكلة الاجتماعية من أصلها
المؤشر الثاني، أن الحكومة، بدل أن تتجه على غرار ما فعلته حكومات أخرى، إلى فرض ضرائب استثنائية على الشركات التي حققت مكاسب جد عالية، مثل شركات الاتصالات وشركات المحروقات، كما أوصى بذلك مجلس المنافسة، فإنها رفضت أن تسير في هذا الاتجاه، وفي مقابل ذلك، تعاملت في المجال الضريبي بمنطق غير متوازن مع الشركات، ففرضت على الشركات الصغرى والمتوسطة زيادة في الضريبة بـ10 نقاط، فرفعتها من 20 بالمائة إلى30 في المائة، بينما رفعتها على الشركات الكبرى بواقع أربع نقاط فقط، أي من 31 في المائة إلى 35 في المائة، مع إقرار امتياز كبير لأصحاب هذه الشركات، صار بموجبه خفض الضريبة على توزيع الأرباح من15 في المائة إلى 10 في المائة، بما يعني أن ما تم إضافته في الرفع من الضريبة، تم سحبه في الخفض من الضريبة على توزيع الأرباح.
المؤشر الثالث، ويهم الحياة السياسية، فالمشهد السياسي اليوم، وبعد واقع ضعف تمثيلية حزب العدالة والتنمية، أصبح يشكو من غياب معارضة مؤسساتية، وهو المعطى الذي لا يصب في مصلحة حكومة أخنوش، إذ بدل أن تساهم المعارضة في امتصاص الغضب الشعبي وتأطيره عبر الإمكانات المؤسساتية المتاحة لها، وبشكل خاص دورها في ممارسة سلطة الاقتراح والتعديل والرقابة، صارت المبادرة اليوم أكثر خارج النسق المؤسساتي، وهو ما يعني فقدان التوازن المؤسساتي، الذي يعين الحكومة على تحصين مقومات السلم الاجتماعي.
المؤشر الرابع، ويهم سلوك الحكومة في التعاطي مع الاحتجاج الفئوي، فقد ترسخت قاعدة في شكل تعاطيها مع احتجاجات أساتذة التعليم العالي ثم المحامين، تنتهي فيها الحكومة في شخص رئيسها إلى الرضوخ إلى مطالب هذه الفئات، بعد فشل القطاعات الوزارية الوصية في الحوار، والخشية من تأثير الإضراب الفئوي على بقية الفئات. هذا الأسلوب الذي وصفه قيادي بالمعارضة بأنه «محاولة لإرشاء النخب من أجل إسكاتها»، يعكس منطقا سياسيا مختلفا عن الذي تم إرساؤه في العقد السابق الذي تولت فيه حكومة العدالة والتنمية المسؤولية، إذ رسخت حكومة أخنوش قاعدة أن الحكومة لا تستجيب إلا للفئات المؤثرة التي تشل حركة احتجاجها قطاعا من القطاعات، مثل ما حدث مع المحامين مؤخرا، كما يرسخ قاعدة الانتقائية في التعامل بناء على قوة الاحتجاج ودرجته وتأثيره. وهي قاعدة خطيرة، تبدو في الظاهر مناورة لاحتواء النخب، لكنها في الجوهر، تعيد تكريس واقع أن لا شيء يمكن أن يأتي من الحكومة من منطلق رؤيتها الاجتماعية، وإنما يأتي من قبل الاحتجاج وانتزاع الحقوق والمطالب، كما يزكي هذا السلوك من جهة ثانية، الضعف السياسي للحكومة، وعجزها عن فرض منطق ضريبي عادل يشمل كل القطاعات، فالنخب التي تمتلك قوة في الاحتجاج، يمكن لها أن تحظى بامتياز ضريبي تفرضه بقوتها في الاحتجاج في الشارع. وهذا ما سيشجع على توسع الاحتقان، واتخاذ الاحتجاج في الشارع أسلوبا لفرض المطالب وانتزاع الحقوق.
المؤشر الخامس، ويرتبط ببنية الحكومة نفسها، وقدرتها على تأمين تحالفها، فما حصل مؤخرا بسبب سلوك برلماني ينتمي لحزب في التحالف الحكومي (هشام المهاجري الذي انتقد رئيس الحكومة بخطاب قوي)، يبين الصورة بشكل واضح، إذ سيصير من الصعب ضبط سلوك البرلمانيين في اتجاه التضامن الحكومي، بسبب هوية الحكومة «الاجتماعية» التي تراعي الكبار وتتنصل من الالتزامات تجاه الصغار. وإذا كان تجميد عضوية هشام المهاجري، قد سوى المشكلة مؤقتا، فإن تأمين التحالف الحكومي بسن سياسات عقابية في حق البرلمانيين، الذين يرون في أنفسهم ممثلين لدوائرهم، سيجعلهم في وضع من يختار بين شيئين أحلاهما مر، إما الانضباط والالتزام بواجب التضامن الحكومي، ومن ثمة تبرير الدفاع عن مصالح اللوبيات، وهو ما يعني فقدان شعبيتهم داخل دوائرهم، وإما الالتزام بالتمثيلية الشعبية، وبالتالي، الدخول مع الحكومة في مناكفة تنتهي بهم إلى نفس مصير البرلماني هشام المهاجري الذي انتقد رئيس الحكومة وسياساته اللاشعبية فكان مصيره تجميد عضويته، واستقالته من رئاسة لجنة الداخلية البرلمان.
هذه المؤشرات الخمسة، تنهض كلها لتؤكد واقع عدم امتلاك حكومة عزيز أخنوش لشخصية سياسية تساعدها على مواجهة أي احتقان شعبي محتمل، وذلك لسبب بسيط أن سياسة احتواء النخب، تصلح لبعض دون بعض، ولا يمكن تعميمها بسبب أنها ستجعل الحكومة مضطرة في نهاية المطاف لمعالجة المشكلة الاجتماعية من أصلها وذلك بالزيادة العامة في الأجور وخفض الضريبة على الدخل، بل وفرض عدالة ضريبية، أوصت بها المناظرات الضريبية التي تم عقدها طيلة السنوات الثمان الماضية.