غريب هذا الموقف الأميركي تجاه ما يحدث في الداخل الإيراني، وهو موقف يمكن أن يكون تمهيدا لشيء ما يدبّر بين واشنطن وطهران. يكشف مثل هذا الموقف الأميركي السطحيّة في التعاطي مع مشاكل العالم. هذه سطحيّة أدّت في نهاية المطاف إلى نقل الحرب على أوكرانيا إلى بولندا، أي إلى دولة من دول حلف شمال الأطلسي (ناتو). في انتظار معرفة هل روسيا وراء إطلاق صاروخين في اتجاه بولندا… أم لا، لا بدّ من ملاحظة أنّ ثمة مراعاة أميركية، إلى أبعد حدود، للنظام القائم في “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
على الرغم من وجود ثورة شعبيّة حقيقيّة في مواجهة الظلم والتخلّف… وعلى الرغم من الموقف الإيراني الصريح المؤيّد لفلاديمير بوتين، يمكن ملاحظة أنّ الاستقواء الروسي بإيران دفع بوتين إلى المزيد من التصعيد.
يخشى أن تكرر إدارة جو بايدن خطأ إدارة باراك أوباما برهانها على صفقة أخرى مع إيران، غير مدركة أنّ التساهل مع إيران في أساس الاستخفاف الروسي بعواقب غزو أوكرانيا.
◘ سياسة أميركيّة حائرة لم تتردد في الإساءة إلى الحلفاء ومسايرة الأعداء والرضوخ لهم، من “الجمهوريّة الإسلاميّة”… إلى روسيا وكلّ ما بينهما من ميليشيات مذهبيّة تخدم المشروع التوسعي الإيراني
تدفع أميركا عمليا ثمن رضوخها للابتزاز الإيراني. في النهاية، كان للصفقة، التي تمّ التوصّل إليها صيف العام 2015، بين أميركا و”الجمهوريّة الإسلاميّة”، دور في غاية السلبيّة في مجال دعم المشروع التوسّعي الإيراني الذي يستهدف القضاء على دول عربيّة عدة بينها سوريا والعراق ولبنان واليمن. حصل ذلك في ضوء حصول إيران، في مقابل الاتفاق في شأن ملفّها النووي، على مئات الملايين من الدولارات. استخدمت هذه الملايين في دعم ميليشياتها المذهبيّة المنتشرة في كلّ أنحاء المنطقة.
لم يعد سرّا منذ أسابيع عدّة أن إيران شريك فاعل في الحرب التي يشنّها بوتين على أوكرانيا وشعبها، وهي حرب مدمّرة لا هدف لها سوى إخضاع أوكرانيا وإعادتها إلى بيت الطاعة الروسي. سكتت واشنطن عن الدور الذي تلعبه المسيّرات الإيرانيّة. يمكن طرح تساؤلات تتعلّق بسرّ هذا السكوت. أين الحماسة الأميركيّة لحريّة الشعوب واستعادة كرامتها؟ توقفت هذه الحماسة في الماضي عندما تعلّق الأمر بالشعب السوري الذي انتفض في مواجهة نظام أقلّوي قتل ما يزيد على نصف مليون مواطن وشرّد نحو عشرة ملايين سوري. تتوقف هذه الحماسة الآن بعدما أثبت الإيرانيون من كلّ القوميات رفضهم لنظام قائم على مصادرة حرّية الإنسان وتبديد المال على حروب خارج إيران.
لا شكّ أن الوضع الداخلي للرئيس بايدن تحسّن في ضوء نتائج الانتخابات النصفية الأميركيّة. اكتسبت إدارته مع بقاء سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ، حياة أخرى. ليس معروفا كيف سيؤثّر ذلك على صعيد السياسة الخارجية وهل يتخلّى بايدن والمحيطون به عن أوهام الصفقة الجديدة مع إيران، وهي صفقة مازال عدد لا بأس به من المسؤولين في واشنطن يتطلّع إليها؟
من الواضح أنّ ثمة حاجة إلى تغيير جذري في السياسة الخارجيّة الأميركيّة في حال كان مطلوبا أن يكون لهذه السياسة معنى من جهة وكي تثبت أميركا مرّة أخرى أنّها قادرة على قيادة العالم من جهة أخرى. لا يمكن لهذا التغيير أن يكون جدّيا وذا مغزى من دون استعادة ثقة الحلفاء الإقليميين الذين واجهوا المشروع التوسّعي الإيراني وصمدوا في وجهه منذ سقوط نظام الشاه في العام 1979. بكلام أوضح، لا يمكن لواشنطن متابعة هربها أمام المشروع التوسّعي الإيراني والشكوى في الوقت ذاته من عدم وقوف حلفائها معها. ليس طبيعيا وقوف الإدارة الأميركيّة موقف المتفرّج حيال ما يجري، على سبيل المثال، في اليمن الذي تحوّل شماله إلى قاعدة صواريخ ومسيّرات إيرانيّة تهدد كلّ دولة من دول المنطقة.
ليس طبيعيّا التفرّج على استمرار الحرب الروسيّة على أوكرانيا، بمشاركة إيرانية، وسعي بوتين إلى توسيع حربه. هناك خلط للأوراق على كلّ المستويات في ظلّ حال اليأس التي يعاني منها الرئيس الروسي. لكنّه يفترض في ذلك ألّا يحول دون مراجعة أميركيّة في العمق تستعيد مسألة التساهل مع إيران، وهو تساهل في أساس متابعة بوتين التصعيد في اتجاهات مختلفة قد تكون بولندا من بينها. اليوم بولندا. غدا دور من في ضوء الهزائم التي يتعرّض لها الجيش الروسي الذي اضطر أخيرا إلى الانسحاب من مدينة خيرسون الأوكرانيّة؟
◘ على الرغم من الموقف الإيراني الصريح المؤيّد لفلاديمير بوتين، يمكن ملاحظة أنّ الاستقواء الروسي بإيران دفع بوتين إلى المزيد من التصعيد
في العام 2011، مع بداية الثورة الشعبيّة في سوريا، تدخّلت إيران مباشرة وعبر ميليشياتها، دعما لبشّار الأسد، فيما فضّلت الولايات المتحدة، التي كانت سلمت العراق إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” على صحن من فضّة الصمت.
في صيف العام 2013 استخدم بشار الأسد السلاح الكيمياوي في حربه على شعبه. قتل المئات من السوريين في غوطة دمشق. لم تفعل إدارة أوباما شيئا. اكتفت بالأخذ بنصائح بوتين الذي وعد بسحب مخزون السلاح الكيمياوي الذي كان يحتفظ به النظام السوري. تبيّن لاحقا أنّ الإدارة الأميركيّة لم ترد على النظام السوري نظرا إلى أنّها كانت تخشى انسحاب إيران من مفاوضات سرّية في شأن برنامجها النووي.
يندرج كلّ ما تلا ذلك في مسلسل رضوخ أوباما للابتزاز الإيراني، في ظلّ حال من التردّد. سمح هذا التردّد لروسيا بمهاجمة شبه جزيرة القرم في 2014. كانت عملية شبه القرم مجرد نزهة. كذلك، كانت نزهة التدخل الروسي في سوريا دعما لإيران التي فقدت في منتصف العام 2015 القدرة على الدفاع عن بشّار الأسد ونظامه.
لا يتعلّق الأمر حاليا ببولندا وهل باتت مهدّدة أم لا. يتعلّق الأمر بسياسة أميركيّة حائرة لم تتردد في الإساءة إلى الحلفاء ومسايرة الأعداء والرضوخ لهم، من “الجمهوريّة الإسلاميّة”… إلى روسيا وكلّ ما بينهما من ميليشيات مذهبيّة تخدم المشروع التوسعي الإيراني.
هل تقدم إدارة بايدن على مثل هذه المراجعة أم تبقى رهينة لسياسات إيرانيّة قبل أن تكون روسيّة جعلت بوتين يعتقد أن أوكرانيا ستكون مجرّد مغامرة عسكريّة أخرى مثل المغامرة السوريّة؟