طرحت الحكومة الجزائرية برنامجا طموحا للعام القادم قوامه زهاء المئة مليار دولار، ليكون بذلك أضخم برنامج تنموي في تاريخ البلاد، ويعول عليه الجزائريون كثيرا للنهوض بالتنمية وتطوير الخدمات وتوفير مناصب الشغل وخلق الثروة، وبما أن الإمكانيات المالية توفرت فهل تملك الحكومة الكفاءة والقدرة على تنفيذه على الميدان؟
ولمحاسن الصدف تحولت مواطن الفشل التي صادفت السلطة الجديدة منذ عام 2019، إلى محفزات لتدارك الموقف وتعويض التأخر، فالرئيس عبدالمجيد تبون الذي كان أسوأ الرؤساء حظا في البلاد، حيث صادفت مجيئه جائحة صحية عالمية تزامنت مع غضب شعبي عارم، ثم انهيار لعائدات البلاد نتيجة أزمة الطاقة، لكن كل ذلك انقلب لصالحه منذ أشهر قليلة فقط.
ومهما كانت درجة القبول الشعبي للسلطة الجديدة بقيادة تبون، فإن استتباب الأمن وعودة الاستقرار إلى الشارع أعطيا الفرصة للحكومة من أجل التفرغ للشؤون الأخرى. وإذ تراجعت حدة الاحتجاجات السياسية والاجتماعية تحت وطأة المقاربة الأمنية والتداعيات الصحية التي فرضها كورونا، فإن الأزمة الأوكرانية قلبت الموازين لصالح الدول النفطية، ومنها الجزائر.
◘ اقتصاد البلاد في حاجة إلى أكثر من مليوني مؤسسة صغيرة، وهو ما يتطلب أكثر من مليوني فكرة، ونحو عشرة ملايين منصب عمل، وعليه فالأولوية لإنتاج الأفكار قبل السقوط في تهليل الانتهازيين والوصوليين
ورغم أن الإستراتيجية الاقتصادية الناجعة تبقى محصورة في إيجاد البدائل الاقتصادية الحقيقية والتحرر من تبعية النفط والغاز، فإن النموذج الجزائري يبقى مرغما على استغلال ما هو متاح لديه من أجل المرور إلى الأهداف الأخرى، ولذلك فإن الأزمة الأوكرانية أعطت فرصة إضافية للاستفادة من عائدات النفط والغاز.
وبهذا المعطى المستجد تكون الجزائر، أول المستفيدين من طفرة أسعار الطاقة، بعد أن اعتقد المراقبون أن الطفرة الأخيرة التي وصلت فيها أسعار النفط إلى 140 دولارا للبرميل عام 2008، هي آخر فرصة أمام الدول المنتجة، فإما أن تستفيد منها في تحقيق نهضتها أو تتنحى عن خارطة العالم. لكن ها هي التطورات الإستراتيجية والجيوسياسية تكرر الطفرة وتمنح الجزائر وغيرها فرصة جديدة للنهضة.
لكن، المتابع لشؤون مجموعة الدول الريعية يستنتج أنها دول مأزومة سواء كانت مواردها الطبيعية في أسوأ الحالات، أو في أحسن الحالات، فقد عانت تلك الشعوب من الفقر والتخلف عندما كانت أسعار الطاقة في الحضيض، وعانت أيضا عندما وصلت إلى أوجها.
وهذا أمر يشير إلى أن أزمة تلك الدول لا تكمن في الموارد ولا في العائدات، بقدر ما تكمن في منظومات حكم سياسي لا تستطيع إنتاج الأفكار التي تخلق البديل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ينهض بالإنسان، وفوق ذلك لا تستطيع حتى ترجمة اليسر المالي إلى نهضة شاملة لمجتمعاتها.
ويبقى النموذج الجزائري خلال حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة عبرة ودرسا للباحثين في أزمة إنتاج الأفكار، فقد حققت البلاد على مدار 15 عاما 1200 مليار دولار، لكن الوفرة المالية انتهت إلى موجة فساد غير مسبوق في تاريخ البلاد، وإلى انتفاضة شارع كنست سلطة الرجل ولا زال دخانها يوحي بالمزيد. وذلك أوضح دليل على الفشل حتى في تحويل الثروة إلى نهضة.
والآن الجزائر التي انحنت أمام الأزمة المركبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في ظرف سنوات قليلة، ها هي تخطط للقيام من جديد مستندة إلى عوائد ضخمة تحققت لها خلال شهور قليلة. فماذا أعد الرئيس تبون لتفادي سيناريو سلفه، وتجسيد المشروع وتحقيق تنمية شاملة وتدارك مؤشرات البطالة والفقر والتضخم والثقة المهزوزة.
الرجلان ينحدران من نفس المدرسة مع فوارق قليلة، والسلطة التي تتحدث عن التغيير لم تقم إلا بتجديد نفسها، لكن لا يمكن التنكر لنوايا ورغبة تبون في عدم تكرار نفس الأخطاء التي وقع فيها سلفه، غير أن ذلك يبقى غير كاف ما لم ترافقه آليات جديدة لاستغلال الفرصة النادرة وتحويلها إلى نجاح ينقذ شعبيته ويمر بها إلى ولاية رئاسية ثانية.
◘ مواطن الفشل التي صادفت السلطة الجديدة منذ عام 2019، تحولت إلى محفزات لتدارك الموقف وتعويض التأخر
القيادة السياسية بالجزائر في حاجة إلى ترتيب الكثير من الأوراق داخليا وخارجيا، فتحويل غلاف مالي بمئة مليار دولار إلى نتائج ميدانية يحتاج إلى تجنيد وتعبئة بشرية ومؤسساتية في مستوى الحدث، ولا مجال فيه للجوقة التي تعودت على الأكل من جميع الموائد، فكما أيدت بوتفليقة لتحقيق مآربها الضيقة تقوم بنفس الشيء مع تبون، بعد أن أعادت التموقع في عديد المفاصل، وفوق ذلك هو في حاجة إلى حكومة ذات كاريزما قوية لديها نفس القناعة والأهداف.
الجزائر في حاجة إلى الأفكار قبل أن تكون في حاجة إلى المال، فمن غير المعقول أن تتوج مؤسسة جزائرية ناشئة في الولايات المتحدة وتجلب 150 مليون دولار، وتنفتح على عدة دول في المنطقة وأوروبا، لتعامل في بلدها على أنها تقدم منتوجا غير مرخص ويعاقب عليه القانون.
اقتصاد البلاد في حاجة إلى أكثر من مليوني مؤسسة صغيرة، وهو ما يتطلب أكثر من مليوني فكرة، ونحو عشرة ملايين منصب عمل، وعليه فالأولوية لإنتاج الأفكار قبل السقوط في تهليل الانتهازيين والوصوليين لضخامة مشروع المئة مليار دولار بغية الانقضاض عليه.
البلاد في حاجة إلى دبلوماسية تجعلها في مرتبة الشريك والند، وليس سوقا للاستهلاك أو استثمارات حكومية في المباني والسكن والبنى التحتية والخدمات تدر أموالا على المقاولات التركية والفرنسية والصينية. الأولى تملك 1500 شركة في الجزائر، والثانية 400 شركة، والثالثة العشرات من الشركات. لكن، في المقابل كم عدد الشركات الجزائرية في تركيا وفرنسا والصين؟.. لا شيء!
هذه المعادلة تبقي معالم تجربة بوتفليقة قائمة، واحتمالات فشل المشروع التنموي الضخم هي نفسها. لذلك يتوجب على القيادة السياسية أن تستغل الفرصة النادرة استغلالا حقيقيا، وتلمس أسباب النجاح والفشل، بداية من الآليات البشرية والمادية إلى المحتوى التنظيري وصولا إلى ترتيب الأولويات.