تعتبر أفريقيا واحدة من أكثر قارات العالم في معدل انتشار الصراعات الداخلية والحروب الأهلية وكذلك عدم الاستقرار، وقد شهدت تدخلات من العديد من القوى الإقليمية على رأسها تركيا والصين ودول الخليج والعديد من الدول الكبرى، فيما تبرز أهمية منطقة القرن الأفريقي كواحدة من أهم المناطق الجغرافية والإستراتيجية التي تستحوذ على موقع جغرافي فريد وتفرض سيطرتها على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
لم تفقد منطقة القرن الأفريقي أهميتها بين أبرز طرقات الملاحة التجارية للعالم والتي تحمل حركة التجارة النفطية والعسكرية على الرغم مما شهدته المنطقة الأفريقية ككل من حالة من الصراع الدولي المتنافس في الفترة الأخيرة، فأضيف إليها لاحقاً دور روسي وصيني متعاظم، بالتوازي مع الانسحاب الفرنسي من الساحل الأفريقي.
تقاطع خطوط المصالح
وعلى صعيد المنافسة العالمية، تحظى المنطقة باهتمام دولي كبير من مختلف القوى الدولية والإقليمية، ويعد الحضور الصيني المتزايد داخل القارة الأفريقية من أهم التطورات في المنطقة في ظل سعي بكين المتزايد نحو تشكيل نظام دولي على أساس التعددية القطبية، بعد أن شكّلت قوة كبرى في العالم لا يمكن إغفال تواجدها وتأثيرها في جميع أرجاء العالم.
الصين تمول العديد من المشروعات داخل منطقة القرن الأفريقي سواء عبر البرامج التنموية أو السدود وغيرها
وسعى الباحث فاروق أبوضيف في كتابه “أفريقيا والتنافسية الدولية تركيا.. إيران.. الصين” الصادر عن دار العربي، لتسليط الضوء على عدد من القضايا الهامة التي تعاني منها القارة الأفريقية مؤخرًا، موضحا أن الصين باتت تعدّ من أكبر الدول المستثمرة داخل قارة أفريقيا، والشريك التجاري الأكبر في القرن الأفريقي، وتعمل منذ فترة طويلة على توسيع مناطق نفوذها خاصة داخل المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية مثل القرن الأفريقي.
كما موّلت الصين العديد من المشروعات في منطقة القرن الأفريقي ولاسيما جيبوتي، والتي أنفقت فيها ما يقرب من 16.6 مليون دولار لتمويل بعض المشروعات التنموية، بالإضافة إلى تقديم مساعدات غذائية بواقع 1.75 مليون دولار في فترة الجفاف التي أصابت ذلك البلد عام 2005، وتجديد مقر وزارة الخارجية بجيبوتي، وهو نفس الأمر مع الصومال، فقد أنقفت الصين الملايين لتمويل سبعة مشروعات تنموية فيه خلال السنوات العشر الماضية. كما أن ما يقرب من 25 في المئة من إجمالي الواردات الصينية من النفط هي من داخل القارة الأفريقية.
أما في السودان، فقد بلغ حجم الاستثمار الصيني ما يقرب من 4 مليارات دولار في مجال الكهرباء، وتعمل بكين على تمويل بعض مشروعات السدود، إذ يعتبر السودان وكينيا من أهم الأهداف الصينية والتي تسعى لتأسيس بعض الأسواق الكبرى بها لخدمة صادراتها.
نفوذ عسكري واقتصادي
وعلى الجانب الآخر تعمل تركيا على مواجهة التوسع الصيني داخل منطقة القرن الأفريقي بما يحقق لها المزيد من تمكين نفوذها باستخدام القوة الناعمة وزيادة حجم الإنفاق، إذ تعتبر تركيا اليوم ثاني أكبر مستثمر خارجي بالمنطقة بعد الصين.
- إيران تسعى لتحقيق طفرة داخل منطقة القرن الأفريقي والتغلغل فيها
- تركيا تعمل على مواجهة التوسع الصيني في المنطقة باستخدام القوة الناعمة وزيادة حجم الإنفاق
في الوقت ذاته تسعى إيران لتحقيق طفرة داخل منطقة القرن الأفريقي والتغلغل فيها، خصوصًا بعد إنشاء القاعدة العسكرية في إريتريا، وكان لا بد للجانب التركي التدخل في ظل تعارض المصالح بينهما في العديد من القضايا، حيث سعت تركيا للتصدي للغزو الشيعي داخل المناطق السنية، والتي ترى أنها بذلك تكسب ودّ دول الخليج العربي.
وتمكنت تركيا من تحقيق أكبر أهدافها في المنطقة عبر تأسيس شراكات مع الدول وإقامة قاعدة عسكرية ضخمة لها في الصومال، والمشاركة في تدريبات عسكرية مع دول القرن الأفريقي، والتي جعلتها تضع موطئ قدم لها داخل الإقليم والحصول على الكثير من الامتيازات كإدارة ميناء مقديشيو لعشرين عاماً ومشروعات استثمارية ضخمة لها سواء في الصومال أو كينيا أو جيبوتي وإثيوبيا ولاسيما بعد اتفاقية سد النهضة التي وقعت عام 2015 بين أنقرة وأديس أبابا.
ماكرون وتحديات أفريقيا
يأتي ذلك كلّه بالتزامن مع الولاية الثانية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي وأزمة الحرب في أوكرانيا، وفي ظل القرار الفرنسي بالانسحاب من بعض المناطق الأفريقية، لاسيما الساحل الأفريقي. ويرى أبوضيف أن القارة الأفريقية تعد واحدة من أبرز التحديات التي تقع على عاتق رئاسة ماكرون الثانية، لاسيما مع بداية تقليص التواجد العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، ومع تصاعد حجم الاحتجاجات الشعبية في عدد من دول الساحل ضد التواجد الفرنسي، وهو ما قد يدعو فرنسا إلى تغيير إستراتيجيتها تجاه المنطقة.
لقد جنت الحكومة الفرنسية جراء هذه الخطوات الكثير من المصالح الاقتصادية والسياسية بالإضافة إلى بناء الثقة والتعاون مع دول الساحل، لكن مؤخرًا شهدت العلاقات بين فرنسا وعدد من دول الساحل منعطفاً مختلفًا وتبادلا للاتهامات لاسيما بين باريس ومالي، كما كشفت بعض المصادر عن تقارب بين مالي وروسيا، إذ دفعت الأخيرة بمجموعة الأمن الخاصة “فاغنر” للمشاركة في عمليات عسكرية مع الجيش المالي بالمنطقة، كما تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الفرنسي قد ألغى زيارته إلى مالي بسبب تداعيات فايروس كورونا، والتي كان مقررا لها في ديسمبر الماضي.
هذه التطورات تأتي عقب إعلان ماكرون ورئيس الجيوش الفرنسي عن اتجاه باريس نحو تعديل نظام التواجد العسكري في الساحل الأفريقي مع التأكيد على أن تقليل التواجد العسكري لا يعني الاتجاه نحو الانسحاب بشكل كامل، بل أن فرنسا ستستمر بالتواجد في المنطقة، بالإضافة إلى دعم الشركاء الدوليين الآخرين للتواجد في الساحل الأفريقي من أجل دعم الاستقرار والأمن في المنطقة ومواجهة الجماعات المسلحة. وبالفعل بدأت الحكومة الفرنسية بإصدار قرارات سحب جزء من القوات في الساحل الأفريقي. ومن المرجح أن يؤثر الملف الأفريقي على مستقبل المشهد الانتخابي، لاسيما وأن باريس تنظر إلى القارة الأفريقية على أنها منطقة نفوذ تاريخي، ولا يمكن غض الطرف عنها.
وبخصوص التدخل الإيراني داخل منطقة القرن الأفريقي، فقد أعطى لطهران فرصة نحو وضع أقدامها داخل منطقة البحر الأحمر وباب المندب التي تسعى من خلال ذلك للتأثير في حركة التجارة، كما تمكنت من عقد شراكات اقتصادية وتأسيس قاعدة عسكرية لها في إريتريا وكسر حاجز العزلة وتوسيع العلاقات بدول أفريقيا، كما تسعى لفرض سيطرتها الأمنية وفتح أسواق جديدة لها، لكن تعارض المصالح بين الدول الكبرى عرقل مسيرة التقدم التي كانت تسعى لها طهران.
وتضاف إلى قضايا أفريقيا مشكلة اللاجئين والنازحين، والتي تسببت في العديد من الأزمات بين الدول نتيجة النزوح الجماعي للسكان، حتى أصبحت قاسمًا مشتركًا بين معظم الدول الأفريقية.
وما زالت القارة الأفريقية تواجه العديد من التحديات التي تعوق مسيرة التنمية، وتعرقل عملية تمكين الشباب في الحياة السياسية داخل المجتمع الأفريقي، لذلك فهي بحاجة إلى وضع إستراتيجية فاعلة لتحويل الطاقات البشرية الخام إلى كوادر قادرة على العطاء وخدمة المجتمع الأفريقي.