طريق باريس الآمن لإنهاء الأزمة مع المغرب

ماموني

حرب التأشيرات التي شنتها باريس لم تحقق أهدافها، والاستمرار فيها مكابرة دون جدوى سياسيا ودبلوماسيا. كل ما جنته أن الأزمة التي كانت في حالة كمون بين المغرب وفرنسا قبل هذه الحملة أصبحت ظاهرة للعلن اليوم، ولا يمكن إنكارها مع توالي دعوات فرنسية للوقوف عند هذا الحد. وهو توجه طرحه عدد من المسؤولين الفرنسيين المصرح لهم بالكشف عن نوايا باريس في إجراء مصالحات حسب المقاس.

اختار مسؤولون فرنسيون مناسبات معينة للتعبير عن رغبتهم في الخروج من هذه الأزمة التي طالت لأكثر من عام. آخر هذه المناسبات انتهاز برلمانيين فرنسيين فرصة تواجدهم في الرباط الأحد الماضي، للدعوة إلى تجاوز أزمة التأشيرات التي سممت العلاقات الفرنسية المغربية والتوصل إلى حلول ترضي جميع الأطراف.

نائب رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي فانسان دولاهاي، أكد على ضرورة إيجاد حلول للخروج من هذا الوضع بسرعة، وإيجاد طرق مقبولة للجميع. ومعروف أن دولاهاي يمثل قناة برلمانية للوساطة، ويريد إعادة توزيع للأوراق مع تقديم مصالح بلده.

ورغم أن سياسة التأشيرات التي انتهجتها فرنسا وألحقت ضررا بالغا بالمغاربة، مثلت وسيلة ضغط فرنسية بامتياز على المغرب، إلا أنها ليست السبب الوحيد في تأزيم العلاقات الثنائية بين البلدين.

هناك قوى أخرى خارجية تحاول الضغط على المملكة للخضوع للأجندة الفرنسية، ولن يكون من الحكمة أن يذهب الرئيس ماكرون إلى أبعد من ذلك

تفاقم التوتر بين المغرب وفرنسا ليس فقط بسبب القرار الفرنسي بالحد من عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة. لكن المسألة مرتبطة باختيارات الرباط على كافة الأصعدة، وهي خيارات لم ترق لصاحب القرار الفرنسي. لم يعجب الفرنسيون أن يروا المغرب، وهو أحد شركائهم الإستراتيجيين، يبني خططه الخاصة به.

قرار الحكومة الفرنسية بتقليص عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة استمر كنوع من العقاب للدولة المغربية. ولم يأت منذ البداية لدواع انتخابية بل لأسباب سياسية ثابتة وممنهجة، لا زالت سارية المفعول إلى حد الآن. وهي ضغوطات لا يقبل بها المغرب.

موقف المغرب من موضوع الهجرة محسوم، وسياسة المغرب واضحة في هذا المجال. حيث تعامل المسؤولون في المغرب بشكل إيجابي مع مد الهجرة القادم من أفريقيا والمتجه إلى أوروبا. وهي سياسة مغربية تمت الإشادة بها من طرف الأفارقة والأوروبيين على حد سواء، لأنها لا تخضع لمزاج انتخابي بل مرتبطة باختيارات بعيدة المدى في التعاطي مع هذه المعضلة بنفس أفريقي – أفريقي وبتوافق أوروبي.

لذلك، استغل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذه النقطة للعب عليها انتخابيا، وأيضا كسلاح أشهره ضد المغرب واحتوائه، بعد أن تمدد المغرب داخل عمقه الأفريقي، وقدم نفسه عنصرا فعالا في المعادلة الدولية المهتمة بالقارة الأفريقية؛ عنصر له الحق في التواجد في هذه القارة من منطلق رابح – رابح  للطرفين، وخال من الأطماع التوسعية الاستعمارية.

أرادت باريس من الرباط أن تكون دوما وأبدا تحت وصايتها، وأن لا يقوم المغرب بتنويع شراكاته الاقتصادية والأمنية والسياسية والدبلوماسية بما يخدم مصالحه وأمنه القومي، وعملت في العديد من المناسبات على استفزاز مسؤولين مغاربة كبار لأسباب مختلفة وأحيانا غير واضحة.

فرنسا لا تريد مغربا يمارس سياسته الخارجية بنوع من الاستقلالية، وبما يخدم مصالحه أولا. ولا تريده مزاحما لها في منطقة تنظر إليها بعين الاحتلال وحديقة خلفية لها.

العلاقات بين باريس والرباط في اضطراب مستمر منذ أكثر من عام، ولم تكن هناك زيارات على مستوى عال من المسؤولين الفرنسيين إلى المغرب. إلا أننا لاحظنا أنه بين الفينة والأخرى يتواجد في الرباط مسؤول فرنسي أو اثنان، تجمعهم كلمة سر تقول: كيف نعيد مياه العلاقات الثنائية بين البلدين إلى مجاريها. ونحن في المغرب نعتبرها زيارات لجس النبض، وتمرير رسائل تحت غطاء مهمة رسمية.

التواصل بين العاصمتين ليس منسابا، ولم يبق وديًا كما كان في الماضي، إلا في بعض الجوانب التي تعتبر ضرورية.

وهنا نتساءل: إلى متى سيبقى شهر العسل الجديد مع الجزائر مستمرا، بعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر العاصمة، في أغسطس، وتهنئة عبدالمجيد تبون في مؤتمر المناخ بشرم الشيخ، بنجاح قمة “لم الشمل”. وفي هذا ما يشير إلى أن مواقف وسلوكيات ماكرون مجرد أداة ضغط على المغرب.

رغم أن سياسة التأشيرات التي انتهجتها فرنسا وألحقت ضررا بالغا بالمغاربة، مثلت وسيلة ضغط فرنسية بامتياز على المغرب، إلا أنها ليست السبب الوحيد في تأزيم العلاقات بين البلدين

استمرت فرنسا لفترة من الزمن بالضغط على المملكة للفوز بعقود تجارية مربحة لصالح شركاتها، لكن مؤخرا لم يعد الأمر كالسابق. على سبيل المثال، بالنسبة إلى الخط الثّاني من القطار فائق السّرعة (البراق)، الذي يربط الدّار البيضاء بأغادير، حيث فازت شركة كورية بإنجاز تصميم القسم الثالث من مسار القطار وهو الجزء الرابط بين مدينتي مراكش وأغادير.

هناك أيضا شركتان مغربيتان؛ الشركة العامة للأشغال بالمغرب، وشركة سوماجيك الجنوب، عهد إليهما بتشييد ميناء الداخلة الأطلسي، المشروع الإستراتيجي الذي تحدث عنه الملك محمد السادس في خطاب المسيرة، قبل أيام، كونه يدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والصناعية لجهة الداخلة وادي الذهب، في جميع القطاعات الإنتاجية؛ مثل الصيد البحري، والزراعة، والتعدين، والطاقة، والسياحة، والتجارة. وهذا يؤكد أن الشركات الفرنسية لم تعد لها أولوية في تنفيذ المشاريع الكبرى للمملكة.

الواقع أن الفرنسيين فوجئوا بالاعتراف الأميركي بالسيادة المغربية على الصحراء، ولم يهضموا قرار الرباط بعدم إخبارهم بكافة تفاصيل الترتيبات الأولية مع الإدارة الأميركية ومع المؤسسات المعنية، والإعداد السري لهذا القرار الذي غير الكثير في مسارات الملف، وأظهر المغرب بلدا له وزنه الجيوستراتيجي، ويتمتع باستقرار مؤسساتي في محيط مضطرب مقلق.

وكان قد تسرب في الأخبار أن الرئيس الفرنسي سيقوم بزيارة إلى المغرب خلال أكتوبر الماضي، وهي زيارة لم تر النور، وذلك ببساطة لأن أسباب التوتر لا زالت قائمة، وقنوات التواصل فشلت في إقناع ماكرون بأن المغرب لا يقبل ممارسة الضغوط عليه وابتزازه حتى من أقرب أصدقائه، بقدر ما هو مستعد للتفاهم، لكن ليس على حساب مصالحه الإستراتيجية.

مع تراجع مصالح فرنسا في المغرب تم إطلاق بالون اختبار جديد، يقول إن اتصالا هاتفيا جرى بين ماكرون والملك محمد السادس، بداية الشهر الحالي. وهو خبر لم يؤكده بيان رسمي من البلدين. ليبقى الحال كما هو عليه.

اللامبالاة التي أبدتها فرنسا في العديد من الملفات الحساسة لم تسعفها في الضغط على المغرب. المغرب لا يريد من حلفائه التقليديين أن يكونوا خجولين جدًا في دعم مصالحه، خصوصا ملف الصحراء الذي يعتبره قضية وجود لا يمكن المساومة فيها، ولهذا لم يقف مكتوف اليدين بل سعى للحصول على دعم موقفه في هذا الملف.

هناك قوى أخرى خارجية تحاول الضغط على المملكة للخضوع للأجندة الفرنسية، ولن يكون من الحكمة أن يذهب الرئيس ماكرون إلى أبعد من ذلك، وتعقيد المواجهة مع المغرب وتعميق أسباب التوتر، وذلك بمحاولة التأثير على ميزان القوى الذي حسمته الرباط في معالجة مشاكلها وتحالفاتها وشراكاتها.

سيكون ذلك لو تم خطأ إستراتيجيًا من شأنه أن يتسبب في خسائر لفرنسا أكبر بكثير مما تعتقد أنها خسرته حتى هذا اليوم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: