العبقرية اللازمة للمرور بالجزائر إلى الأمن المائي

بليدي

عكست أطوار المحاكمة المفتوحة ضد وزير سابق للموارد المائية في الجزائر والعديد من الكوادر في مؤسسات مائية، حجم الفساد الذي ينخر البلاد بعد تبديد قرابة المليار ونصف مليار دولار في صفقات مشبوهة، واللعب الممنهج بأحد القطاعات الحيوية التي تحدد مستقبل الدول والشعوب في المستقبل، فالمياه هي النفط الذي سيفجّر حروب المستقبل بحسب خبراء ومختصين.

ولعل التقرير الأخير للأمم المتحدة الذي صنف الجزائر ودول شمال أفريقيا، في خانة الخطر الداهم جراء الجفاف والتغيرات المناخية، قد ترجم الوضعية الحرجة التي تعرفها المنطقة، وحرّم أيّ تلاعب أو سوء تسيير في القطاع، فالجفاف يهدم أوطانا ويبني أخرى، ويفرغ مجتمعات ويعمّر أخرى.

لكن اللافت أن الحكومات المتعاقبة والمؤسسات العاملة، والتي تقبض رواتبها من أجل تأمين مصالح شعبها، لم تبد إلى حد الآن أي اهتمام ملحوظ بالملف وتكتفي في الغالب بتسيير الأزمات وتدوين التقارير المنمقة لرئيس الجمهورية من أجل أن يبدي رضاه عنها.

الوضع العالم بات يدق أجراس الإنذار للتحذير من التغيرات المناخية والجفاف الزاحف، لكن الصدى لم يتردد لدى الحكومة الجزائرية

ولما اشتدت الأزمة في صيف عام 2019، جراء التبديد وسوء التسيير، اهتدت الحكومة إلى حلول ترقيعية من أجل احتواء الغضب وإرضاء السلطات العليا للبلاد، فقد تحدثت حينها التقارير عن خطورة الوضع وعن بوادر أزمة مائية خانقة، لكن المؤسسات العاملة ظلت تتعمد تطبيق التعليمات الفوقية بدل الاهتمام بالمصالح الإستراتيجية للدولة.

آنذاك علّقت الأزمة في الماء والسيولة النقدية وندرة المواد الغذائية الأساسية على مشجب المؤامرة، وخطط تأليب الشارع على السلطات العمومية، لكن لم ينتبه أحد للأصوات المحذرة من نضوب المخزون الإستراتيجي للمياه، وظلت الكميات المتبقية في بعض السدود تضخ بطرق بدائية من أجل توفير الماء في حنفيات العاصمة والمدن الكبرى.

نفقت الأسماك وهاجرت الطيور من سد كدية أسردون بوسط البلاد، في واحدة من أكبر الكوارث البيئية، وجف سطح السد الذي استغرقت عملية ملئه خمس سنوات كاملة، لأن المؤسسات العاملة اهتمت بتنميق التقارير بدل البحث عن الحلول الناجعة، ولما “صحصحت” الحقيقة، جرت العودة إلى المقدرات الجوفية لتلافي السيناريوهات السيئة.

الجزائر دولة بحجم قارة صحيح، لكن لذلك التوصيف ضريبته، فإيصال الماء إلى أقصى نقطة في الحدود الجنوبية على مسافة 2000 كيلومتر، أو إمداد السكان هناك بالكهرباء والغاز، يغطي ويستهلك ما تستهلكه دولة صغيرة برمتها، ولذلك فإن دولة بهذا الحجم تتطلب عقولا على حد كبير من النبوغ في الاستشراف والتسيير والإخلاص، وإلا صارت البلاد ماردا من “كرتون”.

وهو ما يطرح السؤال عما أعدته الحكومة لمواجهة الوضع الجديد، وماذا رصدت من أموال لتشييد المشروعات التي تكفل وفرة الماء للشرب والري وتربية المواشي واستمرار الحياة بشكل عام، فأقل الأشياء يتوجب تحقيق التوازن بين النمو الديمغرافي وبين توفير مصادر المياه، وتليها الآليات الحقيقية لمواجهة الجفاف، لأن التسعين سدا التي تملكها البلاد لم تعد تف بحاجيات البلاد، ومحطات التحلية المحدودة لم تعد أيضا تفي بالغرض، ولذلك كان من المنطقي أن يلاحظ ارتفاع موازنة الوزارة الوصية، بدل رفع موازنات رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع ووزارة المجاهدين (قدماء المحاربين).

العالم بات يدق أجراس الإنذار للتحذير من التغيرات المناخية والجفاف الزاحف، لكن الصدى لم يتردد لدى الحكومة الجزائرية، فباستثناء الحلول الترقيعية والسهلة المعتمدة على المصادر الجوفية التي هي حق الأجيال القادمة، لم تحضّر أيّ مخطط جاد ومعلوم لإنجاز سدود جديدة ومحطات تحلية ووقف هدر التساقطات الموسمية، وغرس الحواجز الغابية، وفوق ذلك يجري التعاطي مع الأزمة بمنظور جهوي يهتم بالعاصمة والمدن الكبرى بينما يتم تجاهل الأرياف والمناطق الداخلية.

الحكومات المتعاقبة والمؤسسات العاملة، والتي تقبض رواتبها من أجل تأمين مصالح شعبها، لم تبد إلى حد الآن أي اهتمام ملحوظ بالملف وتكتفي في الغالب بتسيير الأزمات

الماء بإمكانه صناعة الحياة والجفاف يصنع الموت، فقد تبعث الحياة هنا بسبب بئر وقد تخلو أيّ بقعة من الأرض لجفافها، تلك القاعدة الأزلية والأبدية للحكومات والشعوب، وأيّ تفكير أو تصرف خارج ذلك فهو مغامرة غير محمودة العواقب، ولعل النماذج الماثلة في بعض المحافظات الصحراوية كبسكرة ووادي سوف هي أكبر دليل وجاهة المقاربة.

صحيح الجزائر في الجانب النظري ليست من الدول الميؤوس منها بسبب الجفاف، لكن الأمر يتطلب عبقرية بشرية للانتقال من النمط التقليدي إلى النمط الجديد في التزويد والتشييد والاستغلال والتسيير، وأبرز تلك الشروط هو طيّ صفحة الغاز الصخري إلى الأبد، لأن الخطر الحقيقي الذي يهدد القدرات المائية الجوفية الضخمة في الجنوب يكمن في المغامرة باستكشاف واستغلال الطاقة المذكورة.

ولأن الاستشراف هو مفتاح الحكم الراشد، فإن العبقرية المطلوبة هي التي تعيد صياغة الأولويات بشكل سليم بدل الانصياع وراء السياسات الديماغوجية، ولحسن الحظ أن الحياة المهددة في الشمال بدأت تدب في الجنوب، فالشريط الساحلي الذي كان يوفر المسكن والمأكل والحياة المدنية بات يئن تحت زحف الخطر الداهم، يكاد يخاطب الجزائريين: مستقبلكم في الجنوب مسكنا ومأكلا وحياة.. هذه دورة الحياة فاستعدوا له.

وكما شكلت الطاقة بعدا إستراتيجيا في العالم، فإن مصادر المياه ستخلفها في نفس الأهمية، ولذلك يتوجب السهر على حماية تلك المقدرات كما تحمى آبار النفط ومحطات الغاز، لأن المخزون الجوفي في الصحراء يبقى هو الملاذ الوحيد للجزائر طال الزمن أو قصر، ومهما كان الوضع في الشمال، فإن الاهتمام الرسمي يتوجب أن ينصبّ من الآن على البدائل الحقيقية والحلول الناجعة، لأن الأمر يتعلق بالحياة أو الموت.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: