استخدام الغاز كسلاح من أسلحة الابتزاز السياسي، أفقد الجزائر الفرصة لإثبات أنها مصدر موثوق للطاقة.
بوشعيب البازي
حسمت مذكرة التفاهم التي وقعتها المغرب ونيجيريا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا في منتصف سبتمبر الماضي، الخيار بين خطين محتملين للغاز النيجيري، الأول، يمر عبر جمهورية النيجر فالجزائر. والثاني، يمر عبر 12 دولة في غرب أفريقيا فالمغرب.
ويستهدف كلا الخطين إيصال الغاز النيجيري إلى أوروبا. إلا أن خط الجزائر ينطوي على اعتبار آخر يتقصد منع وصول الغاز إلى المغرب، ويحرم في الوقت نفسه دول غرب أفريقيا من مصدر للطاقة يمكن أن يشكل قفزة تنموية كبيرة تخدم أكثر من 340 مليون نسمة، في دول ما تزال فقيرة إلى حد بعيد.
وتتطلع نيجيريا، التي يبلغ احتياطيها من الغاز نحو 206 تريليونات قدم مكعب من احتياطي الغاز، فضلا عن 600 تريليون قدم مكعب من الاحتياطات غير المؤكدة، إلى سوق يمتد إلى 25 عاما. وتشكل دول غرب أفريقيا نوعا من ضمانة أكيدة لديمومة هذا السوق، لأن الواقع الحالي يشير إلى أنها يمكن أن تستهلك أكثر من ثلاثة مليارات متر مكعب من الغاز سنويا، بينها أكثر من مليار متر مكعب للمغرب بمفرده. بينما يمكن لمشاريع التنمية في المجموعة الاقتصادية الأفريقية أن ترفع هذا المعدل إلى الضعفين على الأقل خلال السنوات العشر المقبلة.
وهذا ما يعني أنه حتى ولو كانت دول الاتحاد الأوروبي تريد خفض اعتمادها على الغاز لصالح مصادر طاقة نظيفة أخرى مثل الهيدروجين، فإن احتياجات القارة الأفريقية للغاز النيجيري تظل عالية، وتبرر الاستثمار في بناء خط الغاز وصولا إلى المغرب.
خط الغاز النيجيري – المغربي، يمكنه أن يشكل محورا لتكتل اقتصادي، ومحركا لمشاريع التنمية في الدول التي يمر عبرها
ويقول خبراء اقتصاديون إن خط الغاز النيجيري – المغربي، يمكنه أن يشكل محورا لتكتل اقتصادي كبير، ومحركا ضخما لمشاريع التنمية في كل الدول التي يمر الخط عبرها وهي: بنين وتوغو وغانا وكوت ديفوار وليبيريا وسيراليون وغينيا وغينيا بيساو وغامبيا والسنغال وموريتانيا، ثم المغرب، وذلك على طول ساحل المحيط الأطلسي، كما يفترض أن يمدّ دولا غير ساحلية هي النيجر وبوركينا فاسو ومالي.
ويستهدف الخط نقل ما بين 30 و40 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا إلى المغرب، ليتم ربطه من هناك بشبكة الغاز الأوروبية.
وسوف توفر عمليات بناء الخط، للدول التي يمر بها، وللشركات التي تساهم في تمويل المشروع، الفرصة لتشغيل مئات الآلاف من الأيدي العاملة، بما يشمل بناء مشاريع الإنتاج الكهربائي التي ترتبط به.
وتقدر تكاليف بناء الخط الذي يبلغ طوله نحو 5660 كيلومترا ما بين 25 و30 مليار دولار. وهناك جانب من الخط قد تم إنجازه بالفعل لنقل الغاز من جنوب نيجيريا إلى بنين وغانا وتوغو.
وكان المغرب قد أعلن في 29 أبريل الماضي عن توقيع اتفاق مع صندوق (أوبك) للتنمية الدولية، لتمويل الدراسات الأولية للمشروع بقيمة 14.3 مليون دولار. وتشمل هذه الدراسات بعض الجوانب التقنية والهندسية التفصيلية للمشروع. كما خصص البنك الإسلامي للتنمية 15.5 مليون دولار لدراسات التصميم الهندسي الأولية في منتصف عام 2021.
وبالتوازي مع مذكرة التفاهم المغربية – النيجيرية، صدّقت نيجيريا على دخول شركة البترول الوطنية النيجيرية في اتفاقية مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “سيدياو” لبناء الخط، ما يؤكد التوجه نحو إنجازه، والتخلي عن الخط الذي تقترحه الجزائر، على الرغم من أن خط الجزائر أقصر طولا بنحو 2000 كيلومتر مقارنة بالخط مع المغرب، وأقل كلفة بنحو 5 مليارات دولار. إلا أن رهانات خط الجزائر تبدو هزيلة أمام الفرص التنموية التي يتيحها الخط الآخر.
ويقول مراقبون إن الجزائر التي قطعت علاقاتها مع المغرب في أغسطس 2021، وقررت وقف ضخ الغاز إليه في أكتوبر من العام نفسه، سعت إلى خلق أزمة للمغرب، إلا أنها وفرت له فرصة أوسع للبحث عن بدائل ولاستثمار إمكانياته الخاصة في التنقيب. كما أنها ساعدت المغرب في لعب دور قيادي في منطقة غرب أفريقيا، سواء من خلال السعي لإقرار المشروع، أو من خلال السعي للتفاوض مع عدد من جهات الاستثمار الدولية لتمويله.
ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، فإن استخدام الغاز كسلاح من أسلحة الابتزاز السياسي، أفقد الجزائر الفرصة لإثبات أنها مصدر موثوق للطاقة.
ويقول المراقبون، لو أن الجزائر أصدرت إعلانا في ذلك الوقت يقول إنها لن تقطع الغاز عن المغرب، بصرف النظر عن حجم أو طبيعة الخلافات معه، فإنها كانت ستفوز بموقع مهم ليس في سوق الطاقة وحده، وإنما في مجمل العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي. إلا أنها خسرت هذا الموقع، ولن يعود بوسعها أن تفوز به مجددا قبل مرور عدة عقود.
وبحسب تقديرات الخبراء الإستراتيجيين، فإن قرارها، كان واحدا من العوامل التي شجعت روسيا على تبني المنهج نفسه، عندما قررت استخدام الغاز كسلاح بعد قيامها بغزو أوكرانيا. وهو أمر تستطيع الدول الأوروبية أن تلاحظ أن الجزائر كانت هي أول من خطى الخطوة الأولى فيه.
وقد يحتاج مشروع خط الغاز النيجيري المغربي إلى عدة سنوات لتنفيذه، إلا أن عوائده الاقتصادية الضخمة تجعله هدفا مطلوبا، سواء توفرت بدائل طاقة لأوروبا أم لم تتوفر.
حتى وإن كانت دول الاتحاد الأوروبي تريد خفض اعتمادها على الغاز لصالح مصادر طاقة نظيفة، فإن احتياجات القارة الأفريقية للغاز النيجيري تظل عالية
وتنظر تقديرات خبراء السوق إلى الأهمية الإستراتيجية لهذا المشروع من عدة جوانب أخرى:
الأول منها، هو أن بدائل الطاقة النظيفة لن يمكنها، قبل مرور عدة سنوات أيضا، أن تغطي الاحتياجات الأوروبية الراهنة.
والثاني، هو أن الغاز يظل مصدرا رخيصا للطاقة، وأن خط الأنابيب أقل كلفة من الغاز المسال الذي تعتمد عليه الآن، لأنه لا يتطلب “إسالة” وإعادة “تغويز”.
والثالث، هو أن بدائل الطاقة بالنسبة إلى دول غرب أفريقيا تظل بعيدة المنال.
والرابع، هو أن نيجيريا، التي تبحث عن عقود طويلة الأمد، يمكنها أن تراهن على سوقها الأفريقي أكثر مما يمكنها أن تراهن على السوق الأوروبي رغم أهميته الحالية.
والخامس، هو أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التي تمثل تكتلا اقتصاديا يضم 15 دولة، ما تزال في أطوارها التنموية الأولى، ويشكل الغاز النيجيري بالنسبة إليها شريان حياة، يساعد نيجيريا والمغرب وجنوب أفريقيا على أن تكون بمثابة قوى محركة رئيسية لمشاريع التنمية والإعمار في هذه الدول، بما يمكن أن يوازي، من ناحية القيمة الإستراتيجية الإقليمية، المحرك الأوروبي الألماني – الفرنسي.
وتحول المأزق الذي سعت الجزائر إلى أن تضع المغرب فيه، إلى فرصة اقتصادية وسياسية وإستراتيجية له، وساعد في أن يفتح لمجموعة دول غرب أفريقيا أفقا تنمويا، كان ينتظر من يدفع به إلى الأمام.