الغاز الجزائري في سوق الحب والكراهية

الصراف

أوروبا، وإن ظلت تصمت على أعمال الابتزاز الجزائرية، فإنها تستطيع أن ترى كيف أن المزاجية والعداء السياسي يؤثران على القرار الجزائري بالنسبة إلى أمن الطاقة.

لقد رأت المجموعة الأوروبية ماذا يعني استخدام الطاقة كسلاح في علاقاتها مع روسيا. وتستطيع بالتالي أن ترى كيف أن الرئيس عبدالمجيد تبون لا يستحق الثقة مثله مثل شقيقه الرئيس فلاديمير بوتين.

قطعُ الغاز عن المغرب، قد كان من الممكن أن يمر بملاحظات أقل. ولكنه إذ تحول إلى مقاطعة لإسبانيا، وفقا لنظرية “صديق عدوي، عدوي”، فقد وفر للاتحاد الأوروبي علما، بأن الجزائر بلد يتلاعب بالمصائر والاقتصادات وفقا للهوى السياسي، لا وفقا للتعاقدات، وليس جديرا بصفة المصدر “الموثوق” للطاقة.

نجح الأوروبيون في ردع هذا المنحى حيال إسبانيا بسبب روابط السوق الموحدة، ولكنهم لم يغفلوا الأمر حيال المغرب.

الظرف القاسي التي تعانيه أوروبا يجبرها على أن تضع ملاحظاتها على الرف وارتفاع أسعار النفط والغاز يمكنه أن يوفر للجزائر الشعور بأنها أصبحت في “حظيرة الدول الكبرى” بعد أن كانت على “الحصيرة”

وفي حين أن الجزائر هي التي تشن الحرب ضد المغرب، من دون رد، بل بمناشدات سلمية لوقف التنازع المفتعل، فإن قائمة الملاحظات على السلوك الانفعالي، في جانبٍ لا يصحُ أن يخضع للانفعالات، يمكن أن تطول لتهدد حتى الاستثمارات الغربية في مصادر الطاقة في الجزائر.

الظرف القاسي الذي تعانيه أوروبا يجبرها على أن تضع ملاحظاتها على الرف. وارتفاع أسعار النفط والغاز يمكنه أن يوفر للجزائر الشعور بأنها أصبحت في “حظيرة الدول الكبرى”، بعد أن كانت على “الحصيرة”، إلا أن ذلك لا يعني أن الجزائر قد باتت في منأى عن الاعتقاد بأن مزاجيتها السياسية هي معيار التعامل “الاقتصادي”، لا المصالح.

بيع النفط والغاز على قاعدة “أحبك أو أكرهك” شيء قد يبدو بعيدا عن المنطق، وخارجا عن مألوف موازين السوق، ولكنه ليس من دون ثمن. لأن الأسعار في “سوق الحب أو الكراهية” سرعان ما تجد ردها في سوق “اتق شر من أحسنت إليه”، أو في سوق الجفاء على الأقل. وهو ما يعادل مشروعَ كسادٍ أو انكفاء على النفس لكي تتفرغ لممارسة الضغينة مع نفسها.

ولو شاءت العلاقات التجارية أن تُعاتب سوق “الحب أو الكراهية” بحثا عن نظامٍ أكثر ثباتا لتسعير المصالح، فمن المرجح أن تتلقى حزمة من الشتائم من جانب المؤسسات الإعلامية الرسمية. لأن النفط والغاز المُعطر بالحب أو الكراهية لا بد، في النهاية، أن يتحول إلى زفت أخلاقي، لا يُباع ولا يُشترى.

قطعُ إمدادات الغاز عن المغرب، كان بمثابة قطعٍ لشريان حياة. وهو بمعنى آخر عمل “ثوري” يستعير ثقافته من إرث أنظمة الصراعات الأيديولوجية التي عرفتها المنطقة قبل نحو نصف قرن. تلك الأنظمة التي انكشفت فضائحها بعد هزيمة الخامس من يونيو عام 1967. سوى أن الجزائر ما تزال تعيش في ذلك الزمن. لأن انكفاءها على النفس لم يكن سوى انكفاء فشل، في الصناعة والزراعة، وأكثر منه انكفاء فشل في النظريات، التي يطلبُ كل واحدٍ منها رئيسا يُقتل، ونظاماً لا يعرف إلى أين يزمعُ أن يذهب.

ولكن الحقيقة التي لا بد من إقرارها هي أن شيئا واحدا ظل ثابتا، هو الروابط الروحية مع الاتحاد السوفياتي، قبل انهياره وبعده. فسوق “الحب” مع هذا البلد ظل عامرا. فما كانت هناك حاجة إلى النظر في أسباب تصدعه وانهياره. من ناحية لأن “الحب أعمى”، ومن ناحية لأن “الحال من بعضه”. وهو ما وفر “مرجعية” ثقافية للثبات على “المبدأ”. فظلت “الاشتراكية الشعبية” هي قاعدة النظام، وركيزة تعاملاته مع شعبه، قمعا وقهرا، بما أن البطن تشبع، وكأنه قطيع خراف.

غغ

الفساد كان هو القاعدة بالأحرى. والاشتراكية غطاؤها. حتى أصبحت البلاد مرتعا لمسؤولين استغلوا مواقعهم من أجل الإثراء الشخصي وإثراء من حولهم من باعة “الجهاد ضد الاستعمار” الذين نجحوا في تحويله على حسابات طائلة في الخارج.

صحيح أن الرئيس تبون كان بمثابة المحاولة الأخيرة لإنقاذ النظام من السقوط، إلا أنه لم يتصرف كغورباتشوف آخر، لأنه تولى السلطة بلا رؤية حقيقية للإصلاح ولا عزيمة فعلية لتحقيقه. ومثلما قاطع انتخابه ثلاثة أرباع الجزائريين، فقد قاطعهم بدورهم، وآثر أن يعطيهم بعض الفتات من فارق أسعار النفط بين “الحصيرة” و”الحظيرة”.

ولكن الدنيا لا تتوقف عند حال. ومثلما وجدت أوروبا، بالقليل أو بالكثير من التضحيات، سبيلا للتغلب على عدوانية بوتين ومزاجيته الاقتصادية، فإن مشروع غرب أفريقيا للغاز يمكن أن يغير قواعد اللعبة الإستراتيجية في مجال الطاقة، ليخدم المغرب، وليخدم 12 دولة أخرى، ما يجعله مشروعا عملاقا للتنمية الاقتصادية لغرب القارة الأفريقية. وهذا ما يجعل من طوله البالغ 6 آلاف كليومتر مكسبا تنمويا لنحو 440 مليون نسمة.

سوق “الحب والكراهية” يمكنه أن ينتج القطيعة والشتائم والجحود وكل ما قد يعتمل من اضطرابات النفس المضطربة. إلا أنه لا يصنع إلا بلدا منكفئا على فشل

سوق “الحب والكراهية”، يجرُ وراءَه سوقا لـ”الحسد والغيرة”. تلك هي طبيعة الأمور. وبناء على معايير لم تلحظ “قل أعوذ برب الفلق”، فقد حاولت الجزائر أن تُغري نيجيريا بخط أقصر يبلغ طوله 4 آلاف كيلومتر. فلم تلحظ أنه لا يمر بينهما إلا بدولة واحدة هي النيجر. كما لم تلحظ أن سوقه سيظل محدودا، وإنه سوق مع منتج منافس للغاز، فلا تبقى منه فائدة. بينما خط الـ6 آلاف كيلومتر هو سوق مستهلكين، بل سوق كتلة اقتصادية نامية، كلما انتعشت اقتصاداتها، كلما زادت حاجتها إلى مصادر الطاقة.

والمغرب يحرص على إنجاز المشروع، لنفسه قطعا. ولكن لمجموعة دول غرب أفريقيا أيضا، التي بالكاد تتوفر لأفضلها شبكات كهرباء تغطي نصف مساحتها، بينما لا تتجاوز نسبة الربط بالكهرباء في بلد مثل بوركينا فاسو 20 في المئة.

وهذا ما دفع العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى القول إنه مشروع يمكنه أن يعيد هيكلة غرب أفريقيا ويربطها بأوروبا.

سوق “الحب والكراهية” يمكنه أن ينتج القطيعة والشتائم والجحود وكل ما قد يعتمل من اضطرابات النفس المضطربة. إلا أنه لا يصنع إلا بلدا منكفئا على فشل.

بوتين في أوروبا يمكنه أن يُشعل حربا للاستيلاء على أوكرانيا، وتبون في شمال أفريقيا يمكنه أن يواصل حربا للاستيلاء على الصحراء المغربية، ولكن الضغائن والأطماع لا تصنع نصرا، وسوقها لا بد وأن يرتد على صاحبه. تلك هي طبيعة الأمور، بالحظيرة كان المرءُ، أو على الحصيرة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: