انتصارات الجزائر في منحدر اللغة

الصراف

وطأت السلطات الإعلامية الجزائرية منحدرا لغويا جديدا عندما أقذعت بالسباب والشتائم وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، فور مغادرته الجزائر وقبل أن يجف حبر مقررات القمة العربية التي دعت إلى “تعزيز العمل العربي المشترك (…) والمساهمة في حل وإنهاء الأزمات التي تمر بها بعض الدول العربية”.

وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية، التي تعد ناطقا باسم الحكومة الجزائرية وممثلا لسياسات الرئيس عبدالمجيد تبون، وصفت وزير الخارجية المغربي بأنه “كاذب”، و”متحايل”، و”مزور”، صاحب مناورات “دنيئة وغير لائقة”، وأدلى بتصريحات “تافهة” و”أفكار غبية”، وذو “مبررات سخيفة”، ومُعد لـ”سيناريو محبوك سلفا”، و”مستفز”، و”رافض للضيافة الجزائرية المعهودة”، و”متذمر”، ويدلي بـ”هراء”، وذو “لعبة صبيانية”، ويمارس “التشويش”، و”لم يرتق إلى مستوى الحدث”، و”مثير للضحك”، وصاحب “مهزلة أضحكت المشاركين”، و”يجر أذيال الخيبة”،.. كل هذا وغيره، في بيان واحد لا يتجاوز 700 كلمة، واضح أن ثلاثة أرباعها كانت حشوا لكي تندلق فيه الشتائم من قاع النفس، ولتجد لها سياقا في نص لم يسبق لأي وكالة أنباء عربية أن وطئت إلى مستواه من قبل.

والشتائم تعبر، أكثر ما تعبر، عن إفلاس سياسي وآخر أخلاقي وثالث لغوي، ولكنها تكشف عن حقيقة الموقف الرسمي الجزائري من القطيعة مع المغرب. فيكشف عن نفسه كموقف ذي طبيعة هستيرية خارجة عن الأصول، خروجه عن الأعراف والمنطق، ولا تكفي لعلاجه قمة عربية، ولا وساطات، ولا حتى رعاية للمصالح الخاصة.

حفلة الشتائم التي انحدرت لها المؤسسة الإعلامية الرسمية الجزائرية، بعد أقل من 24 ساعة من انقضاء أعمال القمة العربية، كانت بالأحرى تعبيرا عن حجم الضغط الذي عانته الجزائر مع نفسها من استضافة قمة عربية تنطوي على معايير وقواعد كان المرء يحسبها مقدسة ومفروغا منها.

ولكن العقدة التي كشفت الطبائع جاءت من مشاركة وزير الخارجية المغربي الذي كانت الجزائر تريد، بحسب ما تعنيه الشتائم، أن تنهش من لحمه وهو حي، ولكنها عانت الكثير حتى انتظرته يخرج لتسفك دمه بسكاكين سباب صدئ.

المتابعون لتصريحات الوزير المغربي، لاحظوا مقدارا من الشكوى أنه كان يأمل في استقبال أكثر دفئا، وأن الوفد الصحافي المغربي المرافق له تم منعه من دخول الجزائر. والشكوى حق طبيعي، ويمكن التعامل معها بروح التفهم، أو حتى بروح التجاهل، ولكن لا يمكن التعامل معها بالشتائم. والرجل ظل هادئا وحذرا وحصيف اللغة، لكي لا يقطع حبال العلاقة المرجوة بين البلدين، ونقل رسالة دعوة من العاهل المغربي الملك محمد السادس للترحيب بالرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون لزيارة المغرب من أجل الحوار، إلا أن السلطات الجزائرية عاملت الدعوة بالشك، وظلت تراقب كل حركة يتحركها بوريطة بمقدار مفرط من الريبة، قبل أن تكشف وكالة الأنباء الجزائرية أنها رقابة “برانويا” حقيقية لا تكفي لعلاجها قمم، ولا مقررات عن “العمل العربي المشترك”، ولكنها تتطلب مراجعة الطبيب، تحاشيا لتفاقم المعضلة.

وزير الخارجية، في أي بلد في العالم لا ينطق عن الهوى عندما يقوم بتوجيه أي دعوة. وبحسب كل الأعراف الدبلوماسية، فإنها دعوة رسمية. إلا أن وكالة الأنباء الجزائرية ردت على الدعوة بالقول “بعد انهزامه في آخر معقل له بسبب تصريحاته التافهة للصحافة العربية، لم يجد وزير الخارجية المغربي، في رحلته الدائمة للبحث عن الأفكار الغبية، من حيلة أمامه سوى اختلاق دعوة مزعومة لرئيس الجمهورية، السيد عبدالمجيد تبون لزيارة المغرب”.

 

كان يأمل في استقبال أكثر دفئا
كان يأمل في استقبال أكثر دفئا

 

هذا الرد مثير للاستغراب، انطلاقا من حقيقة أنه يتجاوز المعايير المألوفة للتعامل مع الدعوات التي يطلقها أي وزير خارجية في العالم. سوى أنه تجاوز يكشف عن طبيعة العلاقة ليس مع المغرب، وإنما مع النفس التي تُغالب نفسها فلا تجد إلا إفلاس الشتيمة مُتنفسا.

ما يثير الحيرة هو أن المغرب لم يعتد على أي حق من حقوق الجزائر السيادية، ولم يجند ميليشيات لكي تحاربها، ولم يستورد لميليشياته أسلحة، ولا طائرات مسيرة من إيران، لكي يحارب بها الجزائر، ولم يفتح الأبواب لميليشياته لكي تتدرب على أيدي منظمات إرهابية مثل حزب الله. الجزائر هي من تفعل كل ذلك ضد المغرب. فهي تحارب المغرب في سيادته على أرضه، وتدعم ميليشيات لكي تهاجمه وتقتل من جنوده كل يوم، وتجلب منظمات الإرهاب لكي تساعد في تدريب بوليساريو للقيام بهجمات مسلحة، وطائرات مسيرة ضد المغرب. وحتى لو كانت الصحراء المغربية موضع نزاع داخلي، أو “مغربي – صحراوي”، فإنه أمر يُفترض ألا يكون دافعا كي تقف دولة كبيرة مثل الجزائر لتحارب من خلاله دولة كبيرة مثل المغرب. فإن لم تكن قادرا على “فعل الخير” بحثا عن حل، فعلى الأقل لا تكنْ مقبض جمر، في نزاع تتوفر أسس أممية لتسويته سلميا.

ولكن، وبالرغم من ذلك كله، ظلت السلطات الجزائرية تتعامل مع المغرب بريبة المصاب بالهوس، وتستعديه، حتى وصلت الأمور إلى أن تلوذ بأقذع الشتائم، ضد وزير خارجية دولة يكتسب بصفته الرسمية حق تمثيل كل ما فيها من رموز السيادة.

أجواء العداء الرسمية المكشوفة لا تحتاج إلى من يُعيد اكتشافها، والقواعد الدبلوماسية تجيز لأي رئيس دولة أن يعتذر عن الحضور، لأي سبب، معلن أو غير معلن، ومنطق السيادة يعني أنه ليس مُلزما بتقديم أي تفسير. ولا يفترض أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حفلة شتائم. إلا إذا كان “وراء الأكمة ما وراءها”، لتكشفَ عن مضمرٍ مكشوف في الأصل.

بمعنى، لو أن الرئيس الفرنسي لم يحضر قمة أوروبية دعت إليها ألمانيا بسبب خلافات حدودية بينهما، فهل ترد عليه برلين بالشتائم؟

ماذا حل باللياقة؟ أين انتحرت؟ بأي سكين ذبحتها الجزائر؟ أم أنه جنون مجانين فحسب، أفلستهم الهستيريا، فزادوها إفلاسا بما بقي لهم في جعبة الخواء الأخلاقي المطلق؟

أهذا هو كل ما بقي للجزائر؟ يسأل المرء نفسه، ليقول: والله عيب. هذه ليست هي الجزائر التي نعرفها قطعا. إنها ليست جزائر الحرية والمقاومة الباسلة ضد الاستعمار التي ضحت بأبطالها وضحى معها ومن أجلها المصريون والمغاربة والعراقيون. لم تعد كذلك. إنها جزائر أخرى، عندما صارت تنهل مما ينهله الصعاليك من لغة الشارع. فسحقتْ بأقدامها كلَّ مُعلمِ لغةٍ عربية أمضى زهرة سنوات عمره هناك لتستعيد العروبةُ أدبها ودينها هناك. شيء لا يكفيه الأسف على خسارةٍ مروعةٍ خسرناها في هذه الجزائر.

الوكالة الجزائرية قالت في الرد على توجيه الدعوة إلى الرئيس تبون لزيارة المغرب إنه “وبما أن هذا الموضوع جاد ولا يمكنه أن يكون مادة للدعاية الكاذبة، فإن هذه المناورة الدنيئة وغير اللائقة والتي لم تنطل على أحد لا تعدو أن تكون تبريرا سخيفا لتخلف عن حضور الملك محمد السادس في آخر لحظة أشغال القمة العربية”.

وقالت أيضا إنه “تم التأكيد على مشاركة العاهل المغربي في القمة العربية من خلال رسالة شفوية تم تبليغها لوزارة الخارجية الجزائرية قبل أن يتم التأكيد عليها عبر الجامعة العربية، فضلا عن تقديم طلبات للتحليق والهبوط لـ10 طائرات مخصصة لنقل الملك وولي العهد وباقي الوفد الملكي”.

أجواء العداء الرسمية المكشوفة لا تحتاج إلى من يُعيد اكتشافها، والقواعد الدبلوماسية تجيز لأي رئيس دولة أن يعتذر عن الحضور.. ولا يفترض أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حفلة شتائم

الملك لم يحضر. هذا قراره وتلك هي سيادته. والمؤسسة الملكية ليست مُلزمة بتفسير. يكفي ما عرفه الناس من طبيعة الأجواء الباردة التي اُستقبل بها وزير خارجية المغرب. والأمر كله لا يستوجب غضبا. ثم، ما الذي حل بالعتاب؟ هل مات هو الآخر؟ الحدود مقطوعة، ولكن هل الاتصالات الهاتفية بين زعيمي البلدين مقطوعة أيضا؟

والحقيقة هي أن العاهل المغربي وجه عدة دعوات مباشرة في خطابات مذاعة، لأجل إيجاد سبيل لرأب الصدع مع الجزائر، وخاطب الرئيس تبون علنا وبالاسم من أجل هذه الغاية، حتى لم يبق مبرر لأي شك في حجم وحقيقة رغبة المغرب في وقف القطيعة واستئناف علاقات التعاون والجيرة بين البلدين الشقيقين.

ومن المبالغ فيه أن تنحدر الأمور إلى الشك المريض حيال ما هو معلن، ومن ثم إلى الرد بالشتائم المقذعة على وزير الخارجية.

إنه منحدر لغوي، لم يسبق لأحد أن انحدر إليه. وهو منحدر لا تقبله السياسة (لأنها فن إدارة مصالح) ولا الدبلوماسية (لأنها فن إدارة الاختلاف)، ولا الأخلاق (لأنها مما يكشف عن طبائع النفس).

وكالة الأنباء الجزائرية ختمت قائمة شتائمها بالقول “إن الدبلوماسية الجزائرية مستمرة في انتصاراتها، وبوريطة سيقضي ليلة أخرى من دون نوم يخطط لضربة قذرة أخرى ضد بلد أصبح في حظيرة الكبار”.

أهي انتصارات فعلا؟ وما الحاجة إلى هزائم أخلاقية إذا كانت الانتصاراتُ قائمة على دلق الشتائم؟

سوف يظل لائقا بالمغرب أن يبقى “مهزوما” إلى الأبد أمام “انتصارات” كهذه. الهزيمة أرقى له مكانا، من “انتصاراتِ” لغةٍ انحدرت رسميا إلى قاع القاع.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: