القمة العربية : الجزائر تقوم بدور الوكيل لمنع اتخاذ موقف يدين تدخلات إيران و تركيا في الشؤون الداخلية للبلدان العربية
بوشعيب البازي
انتهت القمة العربية في الجزائر بنتائج، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها باردة كبرودة “القواعد الدبلوماسية” التي حرصت على اتباعها من أجل تحاشي الكشف عن موقف ناتئ حيال العديد من القضايا العربية.
وحصر البيان الختامي للقمة الكثير من الاهتمامات، إلا أنه لم يقدم إطارا عمليا لأي عمل حيال القضايا الحساسة التي تم طرحها على جدول الأعمال. وهو ما كرس الانطباعات المسبقة، ومن أبرز هذه الانطباعات أن الجزائر احتضنت القمة من باب “رفع العتب”، لأن تحالفاتها الإقليمية ومشاغلها الخاصة ومقاطعتها المغرب مقاطعة مستحكمة جعلت منها أبعد ما تكون عن تمثيل تطلعات “التضامن العربي” وقواعد “العمل العربي المشترك”.
وكان التركيز على القضية الفلسطينية مفيدا من ناحية التأكيد على حماية حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، إلا أنه كان تركيزا يقصد توفير غطاء لمواقف أخرى خطيرة لم تشأ الجزائر أن تتبنى الموقف العربي المشترك منها.
الجزائر لعبت دور الوكيل المحلي لمنع اتخاذ موقف يدين تدخلات إيران وتركيا في الشؤون الداخلية للبلدان العربية
ورغم أن إيران وتركيا لم ترسلا ممثلين إلى القمة إلا أنهما كانتا أكثر المستفيدين من نتائجها، حيث لعبت الجزائر دور الوكيل المحلي لمنع اتخاذ موقف يدين تدخلاتهما في الشؤون الداخلية للبلدان العربية. وكان ذلك إنجازا كافيا بالنسبة إلى طهران وأنقرة؛ إذ يوفر لتلك التدخلات الغطاء المنشود لاستمرارها.
وتعمد البيان الختامي للقمة التعمية على دور هذين “الحاضريْن – الغائبيْن” بصيغة عامة لم تذكرهما حصرا. كما تعمد خلطها مع قضايا أخرى.
وتدعو الفقرة المعنية بهما، بحسب نص البيان، إلى “رفض التدخلات الخارجية بجميع أشكالها في الشؤون الداخلية للدول العربية والتمسك بمبدأ الحلول العربية للمشاكل العربية عبر تقوية دور جامعة الدول العربية في الوقاية من الأزمات وحلها بالطرق السلمية، والعمل على تعزيز العلاقات العربية – العربية. وفي هذا الإطار نثمن المساعي والجهود التي تبذلها العديد من الدول العربية، لاسيما دولة الكويت، بهدف تحقيق التضامن العربي والخليجي”.
“رفض التدخلات” -وهي صيغة عامة كما هو بيّن- امتزج حسب هذا النص بثلاث قضايا أخرى، لأن الجزائر تمسكت بحماية تركيا وإيران من “الإدانة” التي لم يرد ذكرها أصلا.
ويقول مراقبون إن هذا هو السبب الرئيسي الذي حال دون مشاركة قادة دول الخليج في أعمال القمة، مكتفين بتمثيل من درجة أقل، لأنهم كانوا على علم مسبق بتمسك الجزائر بمنع إدانة التدخلات الإيرانية والتركية في الشؤون العربية.
ولئن دأبت القمم والبيانات العربية المشتركة على إدانة الاحتلال الإيراني لجزر الإمارات الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، وتأكيد حق الإمارات في استعادتها، فإن بيان قمة الجزائر تغافل عن هذا التقليد لحماية إيران من الإدانة وتوفير غطاء لاحتلالها أراضي عربية.
ومرت الأزمة الإنسانية في لبنان مرور الكرام، بصيغة عامة مماثلة؛ إذ لم تقدم قمة الجزائر تعهدات ملموسة للتخفيف منها، رغم أن رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي قدم مناشدة صريحة لمساعدة بلاده على مواجهة هذه الأزمة ومنها تفشي وباء الكوليرا. وهو أمر ما كان ليكلف القمة العربية، ولا الجزائر بمفردها، أكثر من أن تتقدم بتعهد لإرسال شحنات من الأدوية التي تكفل معالجة المصابين، أو أن تخفف من أزمة الطاقة، كي لا يصطدم هذا الجهد بمساعي إيران لأن تكون لاعبا رئيسيا هناك، رغم أنها لم تقدم أكثر من الاستعراضات الدعائية المؤقتة والعابرة.
وتجاهلت القمة أيضا أزمة الأمن الغذائي وارتفاع الأسعار ونقص موارد الطاقة بالنسبة إلى بعض الدول العربية، ولم تتقدم بمبادرات محددة لتخفيف الأعباء عن هذه الدول.
الصيغة العامة، التي لا تعني شيئا محددا ولا ترسم معالم التزامات معينة، كانت هي البديل الذي اختارته القمة لتأكيد عجزها عن أن تكون قمة تلعب دورا ملموسا في معالجة القضايا الحيوية التي ترتبط ارتباطا جوهريا بمبدأ التضامن العربي.
ولا يخفى على قادة الدول العربية نوع الحكومة التي تشكلت في العراق، والأطراف الميليشياوية التي تقف خلفها، كما لا يخفى على أحد أنها أطراف تخضع لقيادة الحرس الثوري الإيراني، وتمتثل لأجندات ومصالح إيران، وتعتزم نهب موارد البلد كما فعلت على طول الخط عندما “اختفت” مئات المليارات من عائدات نفط العراق، إلا أن “إعلان الجزائر” أعلن دعمه لهذه الحكومة ورحب بمهزلة “تنشيط الحياة الدستورية”، التي قامت على أسس غير دستورية أصلا، وأشاد بما يعتبره”جهودها الرامية إلى تحقيق الاستقرار والتنمية الاقتصادية وتجسيد آمال وتطلعات الشعب العراقي”، بينما الشعب العراقي ظل يتظاهر ضدها ويندد بعمالة وارتباطات جماعاتها المسلحة بإيران.
كما ظل النزاع مع المغرب بمثابة مسمار في قدم الجزائر، وأدى إلى التشكيك في كل ما قاله إعلان القمة عن التضامن العربي وحل المشكلات بين الدول العربية وتعزيز العمل العربي المشترك، وغير ذلك من الصيغ التي جعلت من البيان الختامي بيان هواة في السياسة، يدبجون الكلام ولا يمتثلون لما جاء فيه ولا يسألون أنفسهم عما يتوجب عليهم فعله أو تبنيه من إجراءات تتطابق مع النصوص الإنشائية العامة التي وردت في هذا البيان.
وكان من اللافت أيضا أن وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة امتنع عن تقديم كلمة المغرب في القمة، وهي إشارة ذات مغزى، أوحت للمراقبين بأن القمة ليست المكان المناسب للمكاشفة الأخوية ومصارحة الأشقاء بأسباب التنازع، ولا هي المكان المناسب لبث أمل التوصل إلى حل لها. ومثلما كان حضوره القمة أشبه بحضور مراقبين، فإن مشاركات الدول الخليجية نفسها كانت أشبه بمشاركات مراقبين ليس لهم دور، ولا يريدون أن يكون لهم دور لا يتسع المكان له أصلا. ولكنهم لم يرغبوا في أن يقطعوا “شعرة معاوية” مع بلد عربي في النهاية، ولو تصرف نظامه السياسي كوكيل لخدمة مصالح إيران وتركيا.
لئن دأبت القمم والبيانات العربية المشتركة على إدانة الاحتلال الإيراني لجزر الإمارات الثلاث فإن بيان قمة الجزائر تغافل عن هذا التقليد
وبدت القمة مرتبكة، وحرصت رئاستها على تدبر شؤون العلاقات الخاصة مع “المقربين” دون سواهم، لأن العلاقات البينية والمصالح الثنائية كانت هي أساس الحفاوة الشخصية التي حظي بها البعض دون الآخر.
ومثلما كانت القضية الفلسطينية قضية “مركزية” للتغطية على التواطؤ مع طهران وأنقرة، برزت إلى جانبها فكرة أن القمة جعلت من مونديال قطر قضية مركزية أخرى تحظى بالاهتمام.
وكانت الدعوة إلى “عصرنة العمل العربي المشترك” من أكثر الدعوات غموضا. ليس لأنها لم تبرز في إطار عملي محدد المعالم، وإنما لأنها أرادت أن تجمع بين أمرين:
الأول هو تخفيف الدعوات إلى “تطوير الجامعة العربية”، وهي الثيمة التي لطالما أثارت امتعاض مصر. ولو تمسكت الجزائر بطرحها كما طرحتها في القمم السابقة، ما قرر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن يكون بين القادة الحاضرين.
والثاني هو أن الرئيس عبدالمجيد تبون أراد أن يُضفي لمسته الشخصية على أعمال القمة، دون أن تُحدَّد لها الجوانب التنفيذية أو الإجرائية. الصيغة العامة للفقرات المتعلقة بهذه الدعوات طالبت بـ”الالتزام بالمضي قدما في مسار تعزيز وعصرنة العمل العربي المشترك والرقي به إلى مستوى تطلعات وطموحات الشعوب العربية، وفق نهج جديد يؤازر الأطر التقليدية ليضع في صلب أولوياته هموم وانشغالات المواطن العربي (…) وتكريس البعد الشعبي وتعزيز مكانة الشباب والابتكار في العمل العربي المشترك (…) والتأكيد على ضرورة إطلاق حركية تفاعلية بين المؤسسات العربية الرسمية وفعاليات المجتمع المدني بجميع أطيافه وقواه الحية، من خلال خلق فضاءات لتبادل الأفكار والنقاش المثمر والحوار البناء بهدف توحيد الجهود لرفع التحديات المطروحة بمشاركة الجميع”.
ولا يتوقف السؤال الذي يثيره المراقبون عند غموض الدعوات، ولا عند غياب أطرها العملية، ولا حتى عند إنشائيتها كنص مدرسي، وإنما يمتد إلى التساؤل عما إذا كان الرئيس تبون قادرا بالفعل على أن يمثل هموم الشباب العرب الذين لم يتحاور معهم في الجزائر؟ أو هل يستطيع أن يكرس “البعد الشعبي” وهو الذي تم انتخابه بمقاطعة ثلاثة أرباع الشعب الجزائري؟