موسم أصيلة الثقافي يناقش قضايا الحركات الانفصالية والحكامة والأمن الغذائي في القارة الأفريقية
ماموني
يجمع موسم أصيلة الثقافي في فعالياته الخريفية لهذا العام المئات من الباحثين والمفكرين لمناقشة أوضاع المنطقة انطلاقا من الأزمات العالمية وتأثيرها على أفريقيا، حيث يؤكد أصيلة مجددا ومن قبله المغرب أنه يولي الاهتمام اللازم للدراسات الأفريقية التي تضع المغرب ضمن محيطه الإقليمي والعالمي ويحاول استشراف المستقبل وفهم ملامحه انطلاقا من التغيرات السياسية الراهنة، شعاره في ذلك أن الثقافة لا تنفصل عن السياسة بل هي محرك الحياة الرئيسي ومنها تتبلور الأفكار والرؤى.
انطلقت منذ أيام بمكتبة الأمير بندر بن سلطان بأصيلة فعاليات الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي الثالث والأربعين، والدورة السادسة والثلاثون من جامعة المعتمد بن عباد المفتوحة بمشاركة حوالي أربعمئة من صفوة الباحثين والمفكرين وأصحاب القرار النافذين والشعراء والإعلاميين من المغرب والدول العربية والأفريقية.
واعتبر محمد بن عيسى أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة ورئيس جماعة أصيلة، خلال الجلسة الافتتاحية، أنه ما فتئت المؤسسة وموسمها الثقافي يخصصان حيزا معتبرا للشأن الأفريقي منذ عقود طويلة، مبرزا أن أصيلة “كانت رائدة في الدراسات الأفريقية، في زمن لم يكن هذا الانحياز يستثير حماس العديدين، وعلى امتداد سنوات كان لأفريقيا حظها من نقاشات الموسم وفعالياته وجوائزه”.
وإذا كان موسم أصيلة فضاء للالتقاء وتبادل الرأي والنقاش حول العديد من القضايا ذات الاهتمام الإقليمي والدولي، فقد اعتبر جان كلود فليكس – تشيكايا الباحث بمعهد الاستشراف والأمن في أوروبا/أفريقيا، أن أفريقيا في موعد مع ذاتها، وأكبَرَ قيمة المواضيع المناقشة، في ظل التحديات المشتركة للقارة الأفريقية، في فضاء لـ”الأسئلة التي تجمعنا مرة أخرى في مدينة أصيلة”.
وبعد الندوة الرئيسية الأولى التي عقدت ما بين السادس عشر والثامن عشر من أكتوبر، بعنوان “الحركات الانفصالية والمنظمات الإقليمية في أفريقيا”، وندوة ثانية بتاريخ التاسع عشر من أكتوبر بشراكة مع مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، حول موضوع “الأمن الغذائي في أفريقيا في حقبة الحرب بأوكرانيا”، بحثت الندوة الثالثة، ما بين الحادي والعشرين والثالث والعشرين من أكتوبر، موضوع “الخليج العربي بين الشرق والغرب.. المسألة الشرقية الجديدة”، والمتحدث الرئيسي فيها هو الدكتور جمال سند السويدي، المستشار في ديوان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، ونائب رئيس مجلس أمناء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية.
عالجت الندوة الرئيسية الأولى ظاهرة الحركات الانفصالية في أفريقيا من منظور الأزمات الأمنية، وسياسات وإستراتيجيات المنظمات الإقليمية في مواجهتها، انطلاقا من أربعة محاور، تشمل أنظمة الحكامة السياسية والمجتمعية، ومتطلبات الاندماج الوطني في أفريقيا، وخلفيات وجذور الحركات الانفصالية في أفريقيا وسبل مواجهتها، والحركات الانفصالية وتحديات التطرف العنيف، وأزمات الانتقال السياسي في أفريقيا.
الحركات الانفصالية
طرحت الندوة سؤال العلاقة بين المنتمين لأفريقيا الفضاء الجغرافي المشترك، أي واقع سياسي نعيش، وأي مستقبل نريد ونتوق إلى أن يتحقق؟ وقد اعتبر منظمو الندوة أن الهدف الأساسي منها هو شحذ طاقة جديدة للتأمل في موضوع الانفصال في علاقته بالدولة الوطنية، وقد قطع أشواطا معتبرة من الجدل، واستطاع أن يراكم قراءات متنوعة توحد في ما بينها هواجس الانتماء لمجال مشترك.
وكان الهدف من المناقشات التي دامت على مدى يومين، هو الوصول إلى معادلة لمعالجة ظاهرة الحركات الانفصالية في أفريقيا من منظور الأزمات الأمنية وسياسات وإستراتيجيات المنظمات الإقليمية في مواجهتها، وذلك عبر محاور خمسة كبرى: أنظمة الحكامة السياسية والمجتمعية، ومتطلبات الاندماج الوطني في أفريقيا، وخلفيات وجذور الحركات الانفصالية في أفريقيا وسبل مواجهتها، والحركات الانفصالية وتحديات التطرف العنيف: تجارب المواجهة الإقليمية والدولية، والحركات الانفصالية وأزمات الانتقال السياسي في أفريقيا.
وشدد وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة، في كلمة تليت نيابة عنه، على أن وجود الجماعات الانفصالية يعد عاملا مباشرا لنشوب الحروب الأهلية والتطاحن العرقي والإثني، وتمزيق النسيج الاجتماعي والثقافي وتقويض أسس واستقرار الدول في أفريقيا.
ويتفق محمد بن عيسى مع وزير الخارجية بوريطة في أن التحديات الأمنية التي تواجه القارة الأفريقية اليوم هي تحديات تبقى في مجملها غير مسبوقة، ولا مرتقبة وتتسارع وتيرتها وتتعاظم تعقيداتها بكثافة، والتي تفاقمت في مختلف مناطق القارة الأفريقية، وتركزت في الساحل الأفريقي وشرق أفريقيا، وامتدت إلى المجال الرابط بين الإقليمين في وسط أفريقيا ومنطقة البحيرات الكبرى، وصولا إلى منطقة غرب أفريقيا، خاصة منطقة الساحل.
وأشار بوريطة، في هذا السياق، إلى أن قرابة نصف ضحايا الإرهاب في العالم سقطوا في أفريقيا، لاسيما وأن التنظيمات الإرهابية صارت تتمدد وتفرض سيطرتها بشكل متزايد ومستمر في مساحات ومناطق جغرافية على امتداد القارة، مشيرا أيضا إلى أن أفريقيا هي المنطقة الأكثر تأثرا بالأزمات والنزاعات والحروب والأكثر تضررا من تداعيات التغيرات المناخية، والتي أفرزت تهديدات للأمن الغذائي وتحولات ديموغرافية بفعل النزوح والهجرة القسريتين.
فيما اعتبر الأمين العام السابق لمجموعة دول الساحل والصحراء محمد المدني الأزهري أن الأزمات الخانقة التي مرت بالدول الأفريقية بعد استقلالها والصراعات الدولية جعلت من الدولة الوطنية في أفريقيا دولة هشة، وهشاشة الدولة والتدخلات الأجنبية هما اللذان دفعا إلى خلق حركات انفصالية، وساهم في انتشار الحركات الجهادية بكثرة وقوة، لأن تلك الدول الأفريقية الهشة عاجزة.
فالمنظمات الإرهابية، حسب محمد المدني الأزهري، استغلت كثيرا ضعف الدولة الوطنية في مالي أو النيجر ونيجيريا وحاليا تصل البينين وساحل العاج، موضحا أن تلك المنظمات مثل بوكو حرام تستغل فقر الناس وتجند أطفالا بين 14 و15 سنة وتمنحهم الأموال، والدول لا تستطيع مراقبة هؤلاء الفتية.
ديمقراطية متعثرة
أوضح الأمين العام السابق لمجموعة دول الساحل والصحراء الأزهري في تدخله أن نيجيريا عاجزة عن تأمين المواطنين في الشمال، فالولايات الشمالية وبكل قوة الجيش النيجيري عاجز أمام انتشار العصابات والحركات الإرهابية، ولهذا فضعف الدولة جعل الشباب يعود إلى قبيلته كالصومال ودارفور، ليبيا هي الأخرى أصبحت مسرحا لكل هذه التنظيمات والأسلحة تمر من هذا البلد لتنتشر في منطقة الساحل، مشيرا إلى أن العامل الخارجي يلعب دورا سلبيا في تفاقم هذا الوضع التي وصلنا إليه
وأوضح بن عيسى الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة ووزير خارجية المغرب أن لهذه التحديات الأمنية ثلاثة مظاهر بارزة، أولها: حروب الإرهاب والراديكاليات العنيفة، التي تتمثل في نشاط الجماعات المتشددة المقاتلة، مثل (بوكو حرام) والتنظيمات الموالية للقاعدة وداعش وغيرها من الجماعات المتطرفة، وثانيها: الحروب الأهلية والفتن الداخلية ذات الجذور العرقية والدينية والقبلية، التي مزقت وحدة وتماسك العديد من البلدان الأفريقية، بما فيها الدول ذات الكثافة السكانية والموقع الإستراتيجي المهم؛ وثالثها: تعثر تجارب الانتقال السياسي وعودة الجيش إلى السلطة في العديد من البلدان في سياق أزمات مجتمعية معقدة.
في حلقة نقاش حول “الحكامة السياسية والمجتمعية ومتطلبات الاندماج الوطني”، والتي نُظمت في إطار الندوة الافتتاحية، تم التركيز على دور مؤسسات الحكامة والتحديات التي يجب مواجهتها من أجل تعزيز الوحدة الأفريقية وعملية التنمية في القارة، والتعامل مع الحركات الانفصالية.
وأكد نائب رئيس الجمعية الوطنية السنغالية ورئيس المعهد الأفريقي للإستراتيجيات والسلام والأمن والحك، الشيخ تيديان غاديو، أن مؤسسات الحكم في أفريقيا كانت ضعيفة في البداية بما أنه تم استيرادها دون مراعاة خصوصيات القارة، مشيرا إلى أن الدول الأفريقية يجب أن تتبنى نموذجها الخاص للحكامة، الذي يأخذ في الاعتبار التوازن وفصل السلط ويسمح بمكافحة الانفصالية بشكل فعال.
موسم أصيلة الثقافي فضاء للالتقاء وتبادل الرأي والنقاش حول العديد من القضايا ذات الاهتمام الإقليمي والدولي
ومن وجهة نظره أكد وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية في السنغال أن المملكة المغربية محظوظة لكونها دولة تأسست منذ قرون، مما وفر مناخا من الاستقرار والتماسك الوطني، مؤكدا “وجود هوية مغربية حول النظام الملكي الذي ساهم في استقرار البلاد وقام بعمل متميز في مجال التنمية والاندماج والوحدة“.
وإذا كان تدخل الممثل الخاص للأمين العام ورئيس مكتب الأمم المتحدة في منطقة غرب أفريقيا ومنطقة الساحل محمد صالح النظيف ركز على ضرورة بناء الدول على أساس التوزيع العادل للثروة والسلطة وإشراك المواطن في عملية التنمية في أفريقيا، فإن الأمين العام السابق لمجموعة دول الساحل والصحراء الأزهري أكد أن الحل هو الوصول إلى ديمقراطية نابعة من تجارب وتقاليد وعادات وتاريخ هذه الشعوب للتمكن من التعبير عن الذات، وأيضا خوض معركة الوحدة الأفريقية فكل دولة أفريقية مهما كان ثقلها لا يمكن أن تتمكن من توفير متطلبات شعبها في الحرية والديمقراطية والسيادة.
أما تدخل وزيرة المالية راكي تالا ديارا فكان مركزا على أن الالتزام الذي يجمع الأفارقة حول المواضيع الراهنة للقارة ضروري من أجل إيجاد أرضية للتفاهم من منطلقات هوياتية وثقافية، خصوصا دور الحكامة والديمقراطية في تحجيم النزعة الانفصالية، ضاربة المثل بالمغرب الذي كان توجهه للتعاون جنوب – جنوب بين دول القارة، ودوره في تشكيل الرؤية الأفريقية المشتركة، في الحكامة والأمن وغيرهما، التي يطرحها مع احترام سيادة الدول.
احتضنت القاعة الرئيسية بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية الأربعاء التاسع عشر من أكتوبر نقاشا هاما تناول تداعيات الحرب الأوكرانية – الروسية، على الأمن الغذائي بأفريقيا، حيث أدت الحرب في أوكرانيا إلى زعزعة التوازنات الاجتماعية – السياسية والتوازنات الاقتصادية الكلية في جميع أنحاء العالم ومنها الدول الأفريقية التي تأثرت للغاية من ناحية الأمن الغذائي والطاقة، إذ تتنوع حالة الأمن الغذائي باختلاف المناطق أو المناخ أو التربة أو هطول الأمطار أو حتى النظم الغذائية، فبصفة عامة، تستمر جميع أفريقيا في تسجيل عجز كبير في تجارة الأغذية الزراعية مقارنة ببقية العالم مما يضع القارة في وضع اعتماد قوي على الخارج من حيث الإمدادات من العديد من المواد الخام مثل القمح، الذي تمتلك أوكرانيا وروسيا أكبر حصص تصدير منه في العالم.
الحرب والأمن الغذائي
أكدت فاطمة الزهراء منكوب الباحثة في المجال الزراعي بمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، وأمل الواصيف خبيرة علاقات دولية في المركز، أنه ومنذ اندلاع هذا النزاع، حدثت صدمة على مستوى العرض، مما أسهم في اتساع رقعة انتشار شبح المجاعة، وزاد من الطلب على المساعدة الغذائية الخارجية، في وقت تواجه فيه الأنظمة الزراعية بالعديد من البلدان الأفريقية تحديات موروثة عن الماضي، ناهيك عن النمو الديموغرافي والجفاف وآثار تغير المناخ التي أضحت ملحوظة أكثر فأكثر.
وفي تدخل فاطمة الزهراء كبيرة الخبراء الاقتصاديين في مركز سياسات الجنوب الجديد، أكدت أن أفريقيا غير متجانسة للغاية وتأثير الحرب الأوكرانية – الروسية على الأمن الغذائي في أفريقيا يعتمد على العديد من المعايير، ولاسيما عدد موردي المنتجات الزراعية والنظام الغذائي للسكان. فالأسواق الزراعية العالمية مركزة وأي تغيير في الصادرات الزراعية ينعكس على السعر، مشيرة إلى أن روسيا وأوكرانيا من بين القوى الزراعية في العالم التي تتمتع بإمدادات زراعية كبيرة. ينتجان وحدهما 20 في المئة من إنتاج الحبوب في العالم و50 في المئة من إنتاج بذور عباد الشمس في العالم.
وأكد المشاركون في الندوة أنه منذ اندلاع هذا الصراع، حدثت صدمة في العرض ساهمت في توسيع نطاق الجوع وزيادة الطلب على المساعدات الغذائية الخارجية في وقت تواجه فيه النظم الزراعية في العديد من البلدان الأفريقية تحديات موروثة من الماضي، والنمو السكاني، والجفاف، والآثار الملحوظة بشكل متزايد لتغير المناخ، حيث يعد هذا الصراع مؤشرا وحافزا على المشكلات القديمة والأكثر هيكلية المتعلقة بالأمن الغذائي في الاقتصادات الأفريقية، اعتمادا على هيكل اقتصاديات كل بلد (النفط /الغاز أم لا)، وقدرات الإنتاج الزراعي المحلي، وحجم الطلب على بعض الضروريات الأساسية، وأهمية منتجات الحبوب في الاستهلاك المنزلي، والاعتماد على الواردات، في المقابل، بالنسبة إلى روسيا وأوكرانيا، لم يكن للطفرة في أسعار السلع نفس الدرجة من الشدة من دولة إلى أخرى.
واعتبرت أمل الواصيف الخبيرة في العلاقات الدولية في مركز السياسات للجنوب الجديد، أن النزاعات والعنف المسلح من الأسباب الرئيسية لنقص الغذاء، وقد كشفت الأزمة الروسية – الأوكرانية تضخم الضغوط الموجودة بالفعل على الأمن الغذائي للقارة الأفريقية.
وترى الواصيف، ونسمة جروندي الخبيرة في مجال التنمية المستدامة، أنه في الوقت الذي يتم فيه اتخاذ تدابير قصيرة الأجل للتعامل مع آثار تضخم الغذاء الذي تفاقم في العديد من البلدان نتيجة الحرب الدائرة يعرض تلك الدول لخطر زعزعة التماسك الاجتماعي، سيؤدي إلى ظهور الجفاف إلى زيادة سوء الوضع من خلال زيادة الصراع حول موارد المياه الشحيحة، وهذا الوضع يبرر تكاثر الإنذارات لمكافحة حالة الطوارئ المناخية ويدعو إلى إنشاء أنظمة زراعية مستدامة ومرنة في مواجهة الصدمات من جميع الأنواع، حيث أصبح الأمن الغذائي في أفريقيا حساسا بشكل متزايد للاضطرابات وإعادة التشكيل الجيوسياسي للمنطقة والعالم.
وخلص المشاركون إلى أنه من المهم أكثر من أي وقت مضى التساؤل عما إذا كانت الإصلاحات الزراعية، بمعدل تطورها الحالي في القارة السمراء، يمكن أن تنجح في الحد من مخاطر انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية أثناء التعامل مع الآثار المزعزعة للاستقرار الاقتصادي والمناخي والأمني في عالم في مرحلة انتقالية ومليئة بعدم اليقين.