الاستقرار المزيف لا يفضي إلى سلم اجتماعي

البليدي

توالت رسائل الغزل الصادرة من طرف السلطة إلى منطقة القبائل على أمل تطبيع في الأفق يعيد لها مكانتها ولو نسبيا على غرار ربوع البلاد الأخرى، ولعل نجاحها في تنظيم الانتخابات الجزئية وطي ملف الانتخابات المحلية في البلاد، لتكون بذلك جميع بلديات الجمهورية بمجالسها المنتخبة، يمثل أحد المكاسب التي انتشى بها رئيس اللجنة الوطنية المستقلة لتنظيم الانتخابات، ومن ورائه كل السلطة الحاكمة.

ومن الترخيص لرجل الأعمال يسعد ربراب لتفعيل مصنع إنتاج بذور الزيوت بعد سنوات من التعطيل من طرف حكومات الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، إلى الحكم المخفف على صحافي صحيفة “ليبرتي” محمد مولوج، بشكل سمح له بمغادرة أسوار السجن، تستمر رسائل الغزل إلى المنطقة التي ظلت متمردة على السلطة منذ استقلال البلاد في مطلع ستينات القرن الماضي.

ورغم أن الصحافي مولوج كان متهما بالانخراط في حركة “ماك” الانفصالية، المصنفة ضمن الكيانات الإرهابية بحسب السلطة، فإن الحكم الصادر من طرف محكمة العاصمة حمل رسالة تستهدف تحقيق المزيد من التهدئة بعد النجاح في تحقيق الحد الأدنى من نسبة المشاركة في الانتخابات وكسر هاجس المقاطعة لأول مرة منذ بداية أحداث الحراك الشعبي في فبراير 2019.

علاقة المنطقة بالسلطة لم تكن على ما يرام منذ استقلال البلاد في 1962، ففي السنوات الأولى تمرد القائد والمناضل التاريخي حسين آيت أحمد، وتأسيس تنظيمه المسلح، اندلعت بعد عقدين تقريبا أحداث الربيع الأمازيغي في 1980، ثم أحداث الصيف الأسود العام 2001، وهي كلها تراكمات طفت على السطح خلال الحراك الشعبي، حيث كانت المنطقة أول وآخر المناطق التي انتهت فيها الاحتجاجات الشعبية.

وإذا كانت السلطة نجحت ومازالت في تطويع كل بؤر التوتر الشعبي أيّا كان موقعها، إلا أن بؤرة القبائل تبقى الأكثر دقة وتعقيدا، ولذلك يتم التعامل معها بليونة زائدة، لكن رغم ذلك تبقى حظوظ النجاح محدودة، قياسا بالتحولات الاجتماعية التي عرفتها الجزائر منذ العام 2019.

لقد شرّعت نصوص قانونية لتجريم خطاب الكراهية والتفرقة، لكن ممارسات التمييز اللغوي والثقافي مازالت تظهر في شبكات التواصل.. وهي ممارسة تلغم طريق السلطة إلى القبائل وتؤجل فرص التهدئة المنشودة

ولأول مرة تتحالف الإثنيات العرقية ضد السلطة في مظاهرات الحراك الشعبي، التي أظهرت تحولا غير مسبوق عندما ردد هؤلاء “العرب، القبائل.. خاوة، خاوة (إخوة)”، ولما رفعت الشعارات الممجدة للعلماني المتمرد، المناضل والفنان معطوب الوناس، إلى جانب الإسلامي عبدالقادر حشاني، في لافتة واحدة.

وإذ لجأت السلطة مستعينة بذبابها الإلكتروني وأذرعها الإعلامية والدعائية لبث الأحقاد والضغائن والتفرقة العرقية بين المكونين القبائلي والعربي، من أجل كسر شوكة الحراك، فإنها الآن تدفع ثمن خياراتها وسياساتها في استعادة ثقة المنطقة، خاصة وأن المعركة تحولت من خلافات اجتماعية ولغوية وثقافية بين المكونين المذكورين، إلى معركة بينها وبين هؤلاء.

صحيح أن صدمة أحداث الحرائق المهولة التي عاشتها منطقة القبائل صائفة العام 2021، والخسائر البشرية والمادية المهولة التي ترتبت عنها، قد هزت أركان المجتمع المحلي، كما ساهمت المقاربة الأمنية في تفكيك أوصال الحراك الشعبي الذي كان يتغذى من هناك، لكن عودة الهدوء لا تعني في كل الحالات سلما اجتماعيا، لأن التحولات أعادت ترتيب الأولويات بشكل عزل الأذرع التقليدية، وما كان في السابق يوصفون بـ”أعيان القبائل” الذين يضمنون سكوت أو ولاء السكان، لأن السكان أنفسهم باتوا يعتبرون هؤلاء جزءا من السلطة.

ففي السابق راهنت السلطة على أحمد أويحيى، وعلى رجل الأعمال علي حداد وبلعيد عبريكة، وعلى الجنرال توفيق.. من أجل كسب ود المنطقة، لكن هؤلاء هم الآن خصوم الشعب وخصوم سكان القبائل، ولا فائدة ترجى منهم لأنهم هم الآن في السجون أو في الظل، ولا ترجى من غيرهم، ولذلك فإن انطفاء النيران لا يعني بالضرورة برودة الرماد، وما تراكم طيلة عقود كاملة لا يمكن تفكيكه في ظرف وجيز عبر هذا القرار أو ذاك.

السلطة الجديدة في البلاد نجحت إلى حد الآن في فرض استقرار اجتماعي بقوة العصا والجزرة، واهتمامها يتوجه حاليا إلى منطقة القبائل لاستقطابها إلى المجموعة الوطنية التي تجري تعبئتها لمرور الرئيس تبون إلى ولاية رئاسية ثانية، وهي لا تريد تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبتها عندما نظمت عدة استحقاقات انتخابية أفضت إلى إقصاء جهة مهمة من البلاد من المؤسسات الجديدة.

لكن هل تكفيها رسائل الغزل وحدها لتحقيق مبتغاها، في ظل استمرار تجاهل المطالب الحقيقية التي ظل الشارع القبائلي يصدح بها خلال احتجاجات الحراك الشعبي، ولعل تعمدها تغييب القنوات التقليدية التي كانت تستقطب ذلك الشارع، من أحزاب سياسية وجمعيات وإعلام ومناضلين مستقلين، هو أول مؤشر على عدم فهم السلطة لنبض الشارع القبائلي.

لقد شرّعت نصوص قانونية لتجريم خطاب الكراهية والتفرقة بين مكونات المجتمع، لكن ممارسات التمييز اللغوي والثقافي مازالت تظهر في شبكات التواصل الاجتماعي دون رادع ولا مساءلة، وهي ممارسة تلغم طريق السلطة إلى القبائل وتؤجل فرص التهدئة المنشودة.

المجتمع القبائلي بخصوصياته السوسيولوجية والسيكولوجية كان محل اهتمام تاريخي منذ الحجاج بن يوسف الثقفي إلى غاية آخر الباحثين والأكاديميين الذين تفرغوا لدراسته، ولذلك كان على السلطة الاستفادة من كل ذلك الرصيد والتجارب، قبل القيام بحملات عشوائية غير مضمونة النتائج.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: