بينما حبر الاتفاقيات التي جرت على أعلى مستوى بين الجزائر وفرنسا لم يجف بعد، اكتفت الحكومة الفرنسية بإيفاد وزيرها المكلف بالتجارة الخارجية أوليفييه بيخت إلى المغرب لإجراء لقاءات مع مسؤولين مغاربة وفعاليات اقتصادية، في إطار مساع لتذويب الخلاف القائم منذ عدة أشهر.
الغريب أن يقدم الفرنسيون على سحب سفيرتهم لإرسالها في مهمة بالدائرة الخارجية للاتحاد الأوروبي، ويرسلون وزيرا بصفة اقتصادية وتجارية في مهمة لتذويب الخلافات مع الرباط.. هل هذا سلوك دولة تحترم ذكاء صنّاع القرار في المغرب؟
سلوك مثل هذا لا يمكن أن يكون سوى إشارة واضحة على الإمعان في تأزيم علاقات باريس مع الرباط. وفي وقت تبدو فيه الأزمة بين فرنسا والمغرب مستعصية على الحل والفهم، تصف وسائل الإعلام الفرنسية ما يحدث بين البلدين بجملة تزيد الوضع غموضا وتعقيدا “إنه سوء الفهم بين الرباط وباريس”، رافضة أن تنتصر لمنطق الموضوعية والعقلانية والواقعية.
وفي حركة تحمل في طياتها تفسيرا لعلاقة المغرب مع باريس عين العاهل المغربي الملك محمد السادس مساء الثلاثاء الماضي سفير الرباط في باريس محمد بنشعبون مديرا عاما لـ”صندوق محمد السادس للاستثمار”.. بعد عام من تنصيبه سفيرا فيها، ليتفرغ الآن لإدارة مؤسسة ذات ثقل ومجهود اجتماعي كبير يقودها الملك شخصيا.
فرنسا التي تخلق بيئة مسمومة بمنعها الأطباء ورجال الأعمال والموسيقيين والسياسيين من الدخول إلى أراضيها، لا يحق لها أن تكون قلقة جدا من خفوت نفوذها الثقافي واللغوي
أكد المغرب أكثر من مرة أن ما يمكن أن يخلخل علاقاته مع الآخرين هو عدم فهم أولوياته، وعلى رأسها سيادته على صحرائه، باعتبارها المعيار الذي يتم من خلاله تقييم علاقاته الخارجية. وكان على باريس أن توضح موقفها تجاه قضية الصحراء المغربية بالتزام واضح، إلا أن هذا لم يحدث، ولم تعر دوائر القرار الفرنسي أهمية لهذا المطلب.
الدلائل كلها تشير إلى إمعان فرنسا في تأزيم العلاقات مع المغرب، فمع بداية أكتوبر الجاري كانت فرنسا تخطط لإقحام قضية الصحراء المغربية في جدول أعمال القمة التاسعة لزعماء دول الاتحاد الأوروبي المتوسطية “يوروميد”، وبررت ذلك، حسب وسائل إعلام مقربة من قصر الإليزيه، بـ”الانعكاسات المحتملة التي يمكن أن يحدثها هذا الصراع في سياق أزمة إمدادات الطاقة والغاز في أوروبا”.
وترى فرنسا في التواجد المغربي الاستثماري في غرب وشرق القارة الأفريقية تهديدا لها في مناطق نفوذها. ولم تستوعب باريس الإجراءات التي يقدم عليها المغرب لتحصين مجاله الاقتصادي، وإنهاء هيمنة عدد من الشركات على قطاعات مهمة مثل القطاع المصرفي وقطاع الصناعة وقطاع الخدمات الذي يشمل الماء والكهرباء والصرف الصحي في المدن الكبرى.
مجال التأمين كان هو الآخر محل استحواذ، ففي أواخر شهر أبريل الماضي أعلنت مجموعة “إيكسباندو” القابضة عن استحواذها على 80 في المئة من شركة “آكسا أسيستنس المغرب”، لتصبح “أكسا المغرب” تابعة لشركة قابضة مغربية، وهو ما يعني انتهاء هيمنة الشركة الفرنسية بالمغرب وبكامل القارة الأفريقية.
وتستعد مجموعة “سنترال دانون”، إحدى أبرز العلامات الفرنسية المشتغلة بالحليب ومشتقاته الموجودة في المغرب تاريخيا للانسحاب من السوق المغربي، بعد عقود من التحكم في هذه الصناعة، حيث أعلنت رسميا عن بيع أسهمها بعد موافقة الهيئة المغربية لأسواق المال في شهر مارس الماضي على ذلك.
واقعيا التواصل بين الدولتين في حدوده الدنيا. هذه حقيقة لا جدال فيها.
الحقيقة الأخرى هي أن إيمانويل ماكرون مهووس بالجزائر، ويعتقد أنه سينجح في تنظيف العلاقات الفرنسية – الجزائرية، ولا يهمه التضحية بالتفاهم الجيد مع المغرب على أمل الحصول على شروط أفضل من النظام الجزائري في ما يتعلق بمصالح بلده.
لقد تمنى المغرب لماكرون حظا سعيدا، عندما لم تتفاعل الرباط مع تصريح مستفز وغير دبلوماسي وقال إنه سيزور المغرب دون تنسيق أو اتفاق مسبق.
واليوم يسحب المغرب سفيره من باريس، لأنه في حاجة إليه في الورش الاجتماعية والاقتصادية. ولا يمكن أن يضيع الوقت ويهدر طاقة وكفاءة وطنية في مباحثات تجري تحت السطح مع مسؤولين فرنسيين همهم الأول مصالحهم.
إذا كانت باريس تعترف بالمساعدة التي قدمتها لها الأجهزة المغربية في مكافحة الإرهاب وأنقذتها من حمام دم في شوارعها، عليها أن تسأل نفسها ما مصير هذا التعاون اليوم مع تعنت الأذرع المتحكمة في القرار الفرنسي؟
كان الملك محمد السادس قد أثنى في خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب في أغسطس الماضي على دول مثل ألمانيا وهولندا وإسبانيا والولايات المتحدة ورومانيا في مواقفها الإيجابية من قضية الصحراء المغربية، دون ذكر فرنسا بتاتا، موجها دعوة للحلفاء التقليديين للمغرب للخروج من منطقة الغموض في قضية الصحراء المغربية، ورابطا استمرار أو بناء أي شراكة اقتصادية بالإعلان عن موقف صريح داعم لوحدة المغرب الترابية.
وزير التجارة بوصفه ممثلا للدولة الفرنسية، معني بخطاب الملك محمد السادس الموجه لشركاء المملكة الذين مازالوا مترددين وتبدو مواقفهم المتعلقة بسيادة المملكة على صحرائها غامضة، لتوضيح ومراجعة مواقفهم بطريقة لا تقبل أي التباس.
تنويع الشركاء الدوليين على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني أصبح عقيدة مغربية، وهذا ما يؤرق الدولة الفرنسية بكل هياكلها ومؤسساتها. فمن الواضح أن فرنسا لا تريد التخلي عن نزعتها الاستغلالية التي سادت منذ الاحتلال.
كان لهذا التوجه المغربي أثر إيجابي على المغرب في تثمين أدواره ومواقفه من طرف هؤلاء الشركاء ومنهم الولايات المتحدة التي وجهت دعوة للمغرب لحضور أشغال قمة مجموعة السبع (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة والولايات المتحدة) التي ستعقد بواشنطن في شهر نوفمبر المقبل.
واقعيا لم يعد المغرب يركز على فرنسا، بل على تنويع علاقاته وصداقاته السياسية والإستراتيجية، ونجاحه مؤخرا في إقناع الجار الإسباني بتغيير موقفه في ما يتعلق بالصحراء، وهذا ما فعلته الحكومة الإسبانية ونأت بنفسها عن خيارات فرنسا في هذا الملف.
فرنسا التي تخلق بيئة مسمومة بمنعها الأطباء ورجال الأعمال والموسيقيين والسياسيين من الدخول إلى أراضيها ورفض منحهم تأشيرة دخول، لا يحق لها أن تكون قلقة جدا من خفوت نفوذها الثقافي واللغوي، حيث يقوم المزيد من الطلاب بالتسجيل في المجلس الثقافي البريطاني لتعلم اللغة الإنجليزية، وتفضل العائلات ذات الموارد المالية إرسال أطفالها للدراسة في الولايات المتحدة وإنجلترا وكندا.
مؤخرا أرادت فرنسا توريط الرباط في قضية ترحيل الإمام حسن إكويسن الفرنسي الجنسية إلى المغرب الذي رفض استقباله، وهو ما زاد من تعقيد العلاقة الثنائية.
القنصليات المغربية لا مشكلة لديها مع إعادة المهاجرين غير الشرعيين، عندما يكونون مغاربة، وهؤلاء المهاجرون الذين لا يحملون وثائق رسمية، ليسوا كلهم مغاربة.
إذا كانت باريس تعترف بالمساعدة التي قدمتها لها الأجهزة المغربية في مكافحة الإرهاب وأنقذتها من حمام دم في شوارعها، عليها أن تسأل نفسها ما مصير هذا التعاون اليوم مع تعنت الأذرع المتحكمة في القرار الفرنسي؟ وهل وصلت العلاقات بين البلدين، فعليا، إلى نقطة اللاعودة؟
سؤال ستجيب عليه الأيام القليلة القادمة.