أثار تقرير عن تسليم فرنسا الجزائر مجموعة من الجماجم بعضها للصوص بدلا من جماجم مقاومين جزائريين التساؤل عما إذا كان المسؤولون الفرنسيون يعرفون الحقيقة أم أنهم ضحكوا على الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الذي كان يرى في استعادة الجماجم نصرا للذاكرة ونصرا سياسيا له في مواجهة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؟
وقال متابعون للعلاقات الجزائرية – الفرنسية إن هذه القصة المثيرة يمكن أن تعيد العلاقات بين البلدين إلى أجواء التوتر، خاصة أنها تمثل استهانة بالرئيس تبون شخصيا الذي سيكتشف أنه انحنى تقديرا للصوص بدل مقاومي حرب التحرير الذين سعى للاحتفاء بجماجمهم كرسالة ترمز إلى تمسكه بالمقاومة والثبات على خط “الثورة المجيدة”.
ولا يُعرف إلى حد الآن كيف ستتصرف الجزائر وماذا يمكن أن يقول تبون بعد هذه الخديعة التي مست أحد أهم القضايا حساسيةً في علاقة البلد بفرنسا، كما لا يُعرف ما الذي سيقوله ماكرون نفسه، وما إذا كان هو نفسه قد خُدِع في الوقت الذي يحاول فيه استرضاء الجزائريين من خلال تصريحات وتغريدات شخصية تمتدح ماضيهم في حين أن فرنسا لم تعتذر بعد.
◙ قصة الجماجم المثيرة يمكن أن تعيد العلاقات بين البلدين إلى أجواء التوتر، خاصة أنها تمثل استهانة بالرئيس تبون شخصيّا
وكشف تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية وتناولته الصحافة الفرنسية أنّ الجماجم التي أعادتها فرنسا إلى الجزائر ليست كلها جماجم مقاومين.
وذكرت يومية ليبراسيون نقلا عن نيويورك تايمز أن ستّا فقط من الجماجم التي سُلّمت إلى الجزائر في يونيو 2020 هي لأبطال المقاومة. ورغم ذلك تقول الحكومة الفرنسية إنّ تلك الجماجم قد أُعيرت للجزائر “لمدة خمس سنوات”، ومن الممكن استردادها في حال لم تتغير قوانين الاحتفاظ بها في فرنسا.
وكشفت أنّه بالفعل توجد بين الرفات المستعاد جماجم مقاتلين معروفين مثل الشيخ بوزيان وشريف بوبغله، غير أن ثماني عشرة جمجمة أصلها غير مؤكد حسب ما نقلته نيويورك تايمز عن متحف الإنسان في باريس حيث تواجدت هذه الجماجم.
وتبيّن في التحقيق كذلك وجود جماجم للصوص مسجونين، ولثلاثة جنود مشاة جزائريين خدموا في الجيش الفرنسي، وفقاً لمصادر في متحف التاريخ الطبيعي في باريس.
ومع ذلك تم الاحتفال بعودة هذه الجماجم إلى الجزائر بأبّهة عظيمة عشية الاحتفال بالذكرى الثامنة والخمسين لاستقلال الجزائر، حيث حضر الرئيس تبون شخصيا للترحيب بالرفات على مدرج مطار الجزائر، وانحنى أمام النعوش في احتفال عسكري مهيب.
وأكد رئيس الجزائر حينها أنّ هذا “رفات 24 من قادة المقاومة الشعبية حرموا من حقهم الطبيعي والإنساني في الدفن منذ أكثر من 170 عاما”.
◙ ماكرون تعهد بأن تعيد بلاده جماجم الشهداء الجزائريين التي اعتبرها الجيش الفرنسي في القرن التاسع عشر تذكارًا للحرب
وتستهوي قضايا الذاكرة وتفاصيل فترة الاستعمار الرئيس الجزائري الذي يهرب إليها كنوع من التعويض ومحاولة تأكيد قوة الجزائر في خضم هذه المرحلة التاريخية التي تتراجع فيها بسبب الدبلوماسية التي تقوم على الصدام مع الجميع، خاصة في المحيط الإقليمي.
وقبل ذلك بثلاث سنوات تعهد ماكرون، خلال زيارته الرسمية الأولى إلى الجزائر، بأن تعيد فرنسا جماجم الشهداء الجزائريين التي اعتبرها الجيش الفرنسي في القرن التاسع عشر تذكارًا للحرب واحتفظ بها حتى ذلك الحين متحف الإنسان في باريس.
وبالنسبة إلى صحيفة نيويورك تايمز يمكن تفسير هذه “العودة غير الكاملة” بمشكلة أوسع تتمثل غالبًا في عمليات الاسترداد “السرية والمربكة سياسيًّا” من فرنسا، والتي تحاول إعادة تشكيل علاقاتها مع القارة الأفريقية.
وأعربت كاترين مورين ديسيلي، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، عن أسفها لعملية الإعادة “الفاشلة التي تمّت بشكل خبيث” حسب رأيها.
وحدثت أزمة بين الجزائر وفرنسا بعدما اعتبر الرئيس الفرنسي في سبتمبر 2021 أن الجزائر أنشأت بعد استقلالها عام 1962 “ريعا للذاكرة” حول حرب الاستقلال، كرسه “النظام السياسي – العسكري”.
وكانت الصحيفة الأميركية قد نشرت تحقيقها قبل يومين بالتزامن مع تكريم الرئيس الفرنسي، في احتفالات الذكرى الستين لانتهاء حرب الجزائر، الجنود الذين شاركوا فيها داخل قصر لزانفليد في باريس.
ويواصل الرئيس إيمانويل ماكرون، منذ وصوله إلى الإليزيه عام 2017، إطلاق سلسلة من المراسم والفعاليات التي ترمي إلى “بناء ذكرى مشتركة وسلمية” حول استعمار الجزائر والحرب التي أدت إلى استقلالها عام 1962.
لكنّ التكريم الذي أقامه الثلاثاء للمُحاربين الذين شاركوا في الحرب الجزائرية هدف إلى التذكير بأن الغالبية العظمى من هؤلاء رفضت انتهاك مبادئ الجمهورية الفرنسية، باستثناء “أقلية” كانت “تنشر الرعب”، وهو ما لا يُرضي بالطبع ذاكرة الغالبية العظمى من الشعب الجزائري الذي قدّم ما يزيد عن مليون شهيد في معارك التحرير.
وكتبت الرئاسة الفرنسية في بيان “نحن نعترف بوضوح بأنه في هذه الحرب، وبتفويض من الحكومة لكسبها بأي ثمن، كان هناك من وضعوا أنفسهم خارج الجمهورية. هذه الأقلية من المقاتلين نشرت الرعب وارتكبت عمليات تعذيب، تجاه وضد كل قيم جمهورية بنيت على أساس إعلان حقوق الإنسان والمواطن”.
وشارك حوالي 1.42 مليون فرنسي في حرب الجزائر بين عامي 1954 و1962، من بينهم مليون مجند و300 ألف معاون، وفقا لأرقام الإليزيه. وقتل فيها 23.196 جنديا بينهم أكثر من 15 ألفا في المعارك والهجمات، فيما أصيب 60 ألفا آخرون.