سجلت موازنة الجيش الجزائري ارتفاعا غير مسبوق في تاريخ البلاد، حيث كشفت مسودة قانون المالية للعام الجديد عن رصد حوالي 23 مليار دولار، وهو ما يمثل ربع موازنة الدولة، الأمر الذي يثير تساؤلات حول أبعاد ودلالات هذا الارتفاع، خاصة وأن المؤشرات العملية داخليا وخارجيا لا تستدعي كل هذا الحجم من الأموال.
وتعزو دوائر مقربة من المؤسسة العسكرية هذا الارتفاع غير المسبوق وغير المتوقع إلى أن الجزائر ستسعى لتغيير مصادر أسلحتها بالانفتاح على الصين ودول أخرى مثل تركيا وإيران بدلا من روسيا الواقعة تحت عقوبات غربية قد تتسع لتشمل المتعاملين معها، ومن بينهم الجزائر.
لكن مراقبين جزائريين يشككون في أن يكون هذا هو الدافع الوحيد من وراء زيادة ميزانية الجيش، محذرين من إمكانية أن يكون ذلك ستارا لتمرير العمولات الكبيرة من هذه الصفقات أو للتغطية على الفساد داخل المؤسسة.
وكشفت مسودة لقانون المالية الجزائري للعام الجديد عن رصد ما يقارب 23 مليار دولار لفائدة وزارة الدفاع، مسجلة بذلك ارتفاعا غير مسبوق حتى خلال الأريحية المالية التي عرفتها البلاد في العقدين الماضيين، حيث كان نصيب الجيش لا يتعدى حدود الـ12 مليار دولار.
تغيير مصدر التسليح يغني الجزائر عن أي تطور في الموقف الأميركي، رغم أن البيت الأبيض لا يبدي إلى حد الآن أي تفاعل مع الأصوات الداعية إلى معاقبة الجزائر
وباستثناء عام 2013 الذي رصدت الموازنة العامة خلاله مبلغ 17 مليار دولار لوزارة الدفاع، و5 مليارات دولار لصالح وزارة الداخلية، فإن بقية السنوات كان نصيب الجيش لا يتعدى فيها سقف الـ12 مليار دولار، قبل أن يسجل قفزة مذهلة إثر سنّ القانون الجديد تجاوزت كل التوقعات، خاصة وأن البلاد تكابد أزمة اقتصادية واجتماعية معقدة.
ويعتبر المبلغ المقترح ربع ميزانية الدولة، بعدما تم تخصيص مبلغ يناهز الـ100 مليار دولار للإنفاق العام، الأمر الذي يثير اهتمام المراقبين والمهتمين بدواعي ودلالات ما تتضمنه هذه القفزة النوعية لموازنة الجيش، لاسيّما وأن باقي القطاعات في حاجة ماسة إلى زيادة مخصصاتها من أجل تدارك مخلفات الجائحة وتداعيات تراجع عائدات البلاد قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية.
وسجلت موازنة رئاسة الجمهورية ارتفاعا بأربعة أضعاف مقارنة بالموازنات السابقة، ولو أن المسودة قدمت تبريرا لذلك يفيد بدعم وتوسيع النشاط الدبلوماسي، مما يوحي بأن السلطة تريد ضخ المزيد من الأموال في معارك دبلوماسية مع جيرانها أو ضمن مساع لإعادة جبهة بوليساريو إلى الواجهة بعد الخسارات الدبلوماسية والعسكرية في مقابل المكاسب الكبيرة التي حققها المغرب.
وتضاربت التأويلات حول الأسباب الحقيقية للموازنة المذهلة المخصصة لمؤسسة الجيش، بين من يبررها برغبة الجزائر في تغيير نوعية ومصدر تسليحها، بعدما كشفت الحرب الروسية – الأوكرانية محدودية الترسانة العسكرية لموسكو في مواجهة الغرب بأوكرانيا وفشلها في تحقيق الصدمة العسكرية كما كان يروّج الروس، فضلا عن التوقعات التي تفيد بتأثير العقوبات الغربية على موسكو فيما يتصل باستمرار خدمة السلاح لدى الزبائن التقليديين كالجزائر، وبين من يراها امتدادا لهيمنة المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة، بما فيها العائدات والمقدرات المالية.
ولا يُستبعد في هذا الشأن أن يبرم الجيش الجزائري صفقات عسكرية مع الصين لما أظهرته صناعتها من كفاءة وقدرة تنافسية، لتحل محل المصدر الروسي الذي ظل طيلة العقود الستة من استقلال الجزائر هو المصدر الرئيسي لتسليح قواتها العسكرية.
وتؤكد مساع رسمية أخيرة، لبحث اقتناء طائرات دون طيار من تركيا وإيران، أن القيادة العسكرية تنوي تغيير وجهة مصدر سلاحها من موسكو إلى بعض العواصم الأخرى، وهو ما يبرر تخصيص موازنة ضخمة لصالح وزارة الدفاع بغية تغطية تكاليف صفقات تسليح منتظرة مع مصادر جديدة.
ويتماهى هذا الطرح مع فرضية الابتعاد عن إمكانية توسع دائرة الأصوات الفاعلة في واشنطن، لتصنيف الجزائر ضمن الدول المعادية لأميركا بسبب صفقات تسليحها من روسيا التي تعتبر عائداتها مصدرا لتمويل الخزينة الروسية رغم حزم العقوبات الأميركية والأوروبية المطبقة عليها في الأشهر الأخيرة.
23 مليار دولار تمثل ربع ميزانية الجزائر، ما يطرح تساؤلات حول خيارات الجيش الجزائري
وتغيير مصدر التسليح يغني الجزائر عن أي تطور في الموقف الأميركي، رغم أن البيت الأبيض لا يبدي إلى حد الآن أي تفاعل مع الأصوات الداعية إلى معاقبة الجزائر والصادرة عن أعضاء من الكونغرس.
ولا يُنتظر أن يلقى مقترح مسودة قانون المالية الجديدة اعتراضا من مجلس الوزراء أو البرلمان الذي تعود إليه الكلمة الأخيرة في اعتماد القانون المذكور، فالتقاليد السياسية السائدة في البلاد لا تتحدث عن اعتراض أو مساءلة لوزارة الدفاع بشأن الموازنات المخصصة لها.
ورفضت مصادر برلمانية التعليق على التوجه الجديد لقانون المالية، وبررت ذلك بكون الأمر “لا يزال مجرد مسودة قابلة للتعديل و الإثراء، ومن السابق لأوانه الحديث عن الأسباب والخلفيات التي ستتضح خلال عرض القانون من طرف رئيس الوزراء”.
وكان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون قد أصدر خلال الأسابيع الأخيرة مرسوما يعفي شؤون الدفاع والخارجية من المساءلة النيابية، وجرد البرلمان من إمكانية محاسبة وزير الخارجية أو الدفاع عن خيارات أو مواقف معينة أو تقديم حساب لنواب الشعب، الأمر الذي اعتبر خرقا للدستور، لكنه مهد الطريق لهذا المخرج المؤدي إلى تخصيص ربع موازنة الدولة للجيش.
ومنذ الإطاحة بنظام الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، في أبريل 2019، عاد نفوذ المؤسسة العسكرية بقوة إلى المشهد العام في البلاد، حيث أدى دورا لافتا خلال فترة الفراغ المؤسساتي، وباتت قيادة المؤسسة العسكرية هي الحاكم الفعلي للبلاد، وهو ما يترجم الاستحواذ على ربع موازنة الدولة، رغم حاجة القطاعات الأخرى إلى أموال إضافية من أجل تحريك عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومعالجة مخلفات الأزمتين الصحية والنفطية الماضيتين.