في كلّ افتتاح لموسم أصيلة الثقافي مصدر فرح وأمل. مصدر فرح لأنّ المرء يكتشف مرّة أخرى معنى المحافظة على ثقافة الحياة والانتماء إليها من خلال كلّ أنواع الفنون، بدءا بالرسم والموسيقى والغناء… وانتهاء بتكريم الكتاب والأدباء وشعراء عرب وأفارقة أو مجرد أدباء لديهم موهبة ينتمون إلى عالمنا.
أمّا لماذا يرتبط موسم أصيلة بالأمل، فهذا يعود إلى إثبات الموسم أن في المنطقة العربيّة من لا يزال قادرا على طرح مسائل شائكة تقلق العالم كلّه. الأمل هنا، يمثله الفضاء المغربي المعروف بتسامحه وقدرته على تحويل المملكة إلى بلد متميّز في ظلّ الملك محمّد السادس، الملك الإنسان الجريء والشجاع الذي يهمّه أوّلا رفاه مواطنيه، رفاه كلّ مواطن، أكان في المغرب أو خارجه. ليس موسم أصيلة سوى جزء لا يتجزّأ من الفضاء المغربي الأوسع حيث لا سقف للنقاش في شأن ما يشغل العالم من مشاكل وأزمات، آخرها ما يدور في أوكرانيا.
افتتح موسم أصيلة الـ43 يوم الأحد الواقع فيه 16 تشرين الأوّل – أكتوبر 2022. كما العادة، كانت كلمة محمّد بن عيسى الأمين العام لـ”مؤسسة منتدى أصيلة” متميزة، مثلما هو متميّز عنوان الندوة الأولى “الحركات الانفصاليّة والمنظمات الإقليميّة في أفريقيا”.
ليس موسم أصيلة سوى جزء لا يتجزأ من الفضاء المغربي الأوسع حيث لا سقف للنقاش في شأن ما يشغل العالم من مشاكل وأزمات آخرها ما يدور في أوكرانيا
أشار بن عيسى إلى أن الندوة تندرج “في صرح التفكير في شأن المجال الأفريقي بما هو فضاء حيوي”، مضيفا “ما فتئت مؤسسة منتدى أصيلة وموسمها الثقافي تخصّصان له حيزا معتبرا منذ عقود طويلة. بات يمكن الزعم أنّ أصيلة كانت رائدة في الدراسات الأفريقيّة، في زمن لم يكن هذا الانحياز (إلى أفريقيا) يستثير حماسة عديدين. على امتداد سنوات كان لأفريقيا حظها من نقاشات الموسم وفعالياته وجوائزه. تنعقد هذه الندوة، إذا، لتسترسل في طرح أسئلة العلاقة بيننا نحن المنتمين إلى هذا الفضاء الجغرافي المشترك. أي واقع سياسي نعيش وأي مستقبل نريد تحقيقه ونتوق إليه. هدفنا شحذ طاقة جديدة للتأمّل في موضوع الانفصال، في علاقته بالدولة الوطنيّة، وقد استطاع أن يراكم قراءات متنوعة توحّد في ما بينها هواجس الانتماء إلى مجال مشترك”.
كان الهدف من طرح موضوع الحركات الانفصاليّة في أفريقيا “الوصول إلى معادلة لمواجهة ظاهرة الحركات الانفصالية في أفريقيا من منظور الأزمات الأمنيّة وسياسات وإستراتيجيات المنظمات الإقليمية في مواجهتها”.
تطرق الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة إلى محاور عدة في مواجهة ظاهرة الحركات الانفصالية. من بين هذه المحاور “الحركات الانفصالية وتحديات التطرّف العنيف: تجارب المواجهة الإقليميّة والدوليّة”.
لم يعد سرّا مدى خطورة ظاهرة الحركات الانفصالية. فرض ذلك طرح الموضوع بكلّ شفافية في أصيلة “لمناهضة محيط العنف المتنامي والإرهاب المتصاعد بإيقاع مرعب، ما يساهم في تفتيت القدرات الطبيعية والبشرية لأفريقيا وإضعافها، وفي بلقنة الكيانات الوطنيّة، بل إغراقها في نزاعات وحروب أهليّة مدمّرة”.
بعد الندوة الأفريقية، ستستضيف أصيلة ندوة أخرى عنوانها “الخليج العربي بين الشرق والغرب: المسألة الشرقيّة الجديدة”. يعطي طرح موضوع “المسألة الشرقيّة الجديدة” فكرة عن العقل الخلاق وراء موسم أصيلة. تعني “مسألة الشرقية الجديدة”، من بين ما تعني، “إعادة توزع القوى والمواقع الجيوسياسية على الصعيد الشرق أوسطي بمفهومه الموسع. في هذا المجال الفسيح لدول الخليج العربي، دور فاعل وتأثير نوعي حسب خطوط التحول ومسارات التشكل المستقبلية”. الطرح واضح وهو مرتبط بتحديات القرن الواحد والعشرين والتغييرات التي تشهدها المنطقة ودور دول الخليج العربي في مواجهة هذه التحديات وأبعادها.
تبقى الندوة الثالثة والأخيرة التي عنوانها “أي نظام عالمي جديد بعد حرب أوكرانيا”. تنعقد الندوة في وقت يمرّ العالم كلّه في تحولات شبيهة إلى حد كبير بتلك التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي. ما الذي يمكن أن تعنيه الحرب الأوكرانية التي بدأها الروسي فلاديمير بوتين، وهي الحرب الأولى من نوعها في الداخل الأوروبي منذ العام 1945؟ لم ينس منظمو موسم أصيلة الإشارة إلى ما هو على المحكّ في عالمنا هذا في ضوء الحرب الأوكرانيّة. ما على المحكّ النظام العالمي نفسه وما يواجهه من تحديات فرضها الصراع المسلح في أوروبا. ما على المحكّ أيضا الصراع الروسي – الأميركي الذي يوحي بحرب باردة جديدة أو الحرب المعولمة الأولى. ما على المحك أخيرا تحولات النظام العالمي وفكرة القطبيّة المتعددة.
يتجرّأ موسم أصيلة حيث لا يتجرّأ آخرون. مرّة أخرى، ثمّة حاجة إلى التذكير بالفضاء المغربي الذي يسمح بطرح مشاكل العالم بكلّ أريحية. هذا كلّه بفضل ما تحقّق في المملكة التي باتت واحة استقرار في منطقة شمال أفريقيا. إنّها البلد الوحيد الذي تطرح فيه مشاكل المنطقة والعالم من دون حدود مصطنعة أو عقد. إنّه البلد الوحيد في المنطقة الذي يعرف أنّه يواجه تحديات على مستويات عدة. ليس الخطاب الأخير للملك محمد السادس في افتتاح الدورة الجديدة لمجلس النواب سوى دليل على ذلك. نبّه العاهل المغربي أبناء شعبه وأعضاء مجلس النواب إلى موضوعين كان أولهما “إشكالية الماء، وما تفرضه من تحديات ملحة”، فيما يتعلّق الثاني بـ”تحقيق نقلة نوعية في مجال النهوض بالاستثمار”.
يعطي ما تشهده أصيلة في موسمها الـ43 فكرة عن مدى ارتباط المغرب بالمستقبل من دون تجاهل ماضيه والشراكة بين الملك والشعب، وهي شراكة سمحت له باستعادة وحدته الترابية واستعادة صحرائه التي كانت تحت الاستعمار الإسباني بطريقة سلميّة. تبقى “المسيرة الخضراء” خريف العام 1975 أفضل تعبير عن الروح المسالمة للمغرب وعن عمق الشراكة القائمة بين الملك والمواطن. إنّها شراكة تكرّست في “ثورة الملك والشعب” في العام 1953. أسقطت تلك الثورة التي واجهت المستعمر الفرنسي كلّ الرهانات على التمييز بين المواطن والعرش وعلى السعي إلى قطيعة بين المغرب المستقلّ المتصالح مع نفسه أوّلا… وكلّ ما هو حضاري في هذا العالم.