تفادى الرئيسان عبدالمجيد تبون وإيمانويل ماكرون لأول مرة الخوض في تعقيدات الموروث التاريخي والذاكرة المشتركة بمناسبة الذكرى الـ61 لمجازر السابع عشر من أكتوبر العام 1961، بما يوحي بأن الرجلين يسيران نحو مرحلة جديدة في علاقات متحررة من تركة الماضي طبقا للتوافقات المتوصّل إليها بين الطرفين خلال زيارة ماكرون إلى الجزائر نهاية شهر أغسطس الماضي.
غابت اللغة السجالية المعهودة في خطاب فرنسا والجزائر خلال المناسبات التاريخية بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للهجرة الذي يحيي المظاهرات التي دعت جبهة التحرير الجزائرية العام 1961 إلى تنظيمها في باريس من طرف الجالية الجزائرية من أجل المطالبة بالاستقلال الوطني، ونقل المعركة السياسية إلى داخل فرنسا.
ويبدو أن البلدين بصدد تدشين مرحلة جديدة بعيدة عن التجاذبات التاريخية التي رهنت علاقاتهما طيلة العقود الماضية، وظلت تمثل عائقا أمام أي تطبيع بينهما، حيث تفادى الطرف الجزائري خطاب الهجوم المعتاد على مسؤولية فرنسا في الأحداث، كما عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن رفضه لتلك الممارسات التي قوبل بها الجزائريون آنذاك، غير أنه لم يعتذر عمّا ارتكبه أجداده.
وتذكر روايات تاريخية بأن المظاهرات انتهت بمجازر حقيقية بسبب العنف والقمع اللذين مارستهما الشرطة الفرنسية آنذاك على المتظاهرين، حيث قضى العشرات منهم، فيما أصيب وأوقف المئات، وهناك من تم رميهم أحياء في نهر السين.
ومع ذلك يبقى الغموض يكتنف مصير قضايا التاريخ العالقة في ظل عزم الطرفين على التفكير والنظر إلى المستقبل والبحث عن الحقيقة، بحسب تصريح ماكرون خلال زيارته إلى الجزائر، فما يعتبر تنازلا رسميا منها عن مطلب الاعتراف والاعتذار لا يمكن تحقيقه على الصعيد الشعبي، لاسيما وأن بعض آثار الحقبة الاستعمارية لا زالت ماثلة للعيان، على غرار مخلفات التفجيرات النووية في جنوب البلاد.
الغموض يظل يحيط بمصير قضايا التاريخ العالقة، في ظل عزم الطرفين على التفكير والنظر إلى المستقبل
وفي تغريدة له على حسابه الرسمي في تويتر ذكر الرئيس الفرنسي بأن “ما حدث في السابع عشر من أكتوبر 1961 جريمة لا مبرر لها للجمهورية الفرنسية (…) في باريس، قبل 61 عاما، خلف قمع مظاهرة للجزائريين مئات من الجرحى وعشرات من القتلى، هذه الجرائم لا يمكن تبريرها بالنسبة إلى الجمهورية”.
وأضاف “فرنسا لا تنسى الضحايا (…) الحقيقة هي السبيل الوحيد إلى مستقبل مشترك”، في تلميح إلى أن فرنسا الرسمية وضعت مطلب الاعتراف والاعتذار خلف ظهرها، وأن البلدين يسيران نحو المستقبل والبحث عن الحقيقة حيث اتفقا على تشكيل لجنة مشتركة من المؤرخين والمختصين لتدوين وتصفيف أحداث ثورة التحرير.
وبدورهم، تفادى مسؤولون جزائريون الخطاب المعهود في المناسبات التاريخية حول ما كانوا يصفونه بـ”الوحشية الاستعمارية”، ووضع الاعتراف والاعتذار كشرط أساسي للتطبيع بين البلدين، وذلك في سابقة أولى من نوعها، ما يترجم التوجه الرسمي الجديد في البلاد بشأن ملف التاريخ مع فرنسا.
وذكر الرئيس تبون في رسالته للجزائريين “تحلّ علينا ذكرى يوم الهجرة المخلدة لمظاهرات السابع عشر من أكتوبر 1961، لنسترجع فيها مآسي وعبر تلك المجازر النكراء التي اقترفها المستعمر الآثم قبل ستين عاما في حق بنات وأبناء الشعب الجزائري في المهجر الذين أكدوا بمواقفهم عبر الزمن أن الهجرة لم تكن بالنسبة إليهم هجرانا لبلدهم ولا ابتعادا عن آلام وآمال أبناء وطنهم”.
وأضاف “إنها لحظة من لحظات الوفاء لذاكرتنا الـمجيدة، ومحطة وفاء تدعونا إلى الالتفاف حول مشروعِ التجديد الوطني والتوجه بعقيدة راسخة نحو المستقبل، لكسب رهان بناء اقتصاد وطني صاعد وواعد، وتحقيق التنمية المستدامة”.
تبون اكتفى بتوجيه رسائل الغزل للجالية المهاجرة، والترويج لسياسات السلطة الجديدة في كل المجالات
ولفت إلى أن “جاليتنا معنية في هذه المرحلة التي نبني فيها دولة المؤسسات والحق والقانون، ونخوض فيها تحديات بناء الجزائر الجديدة وهي مدعوة لتكثيف مساهماتها في المجهود الوطني، لاسيما وأن التعديل الدستوري مكنها من الانخراط في الديناميكية الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الجزائر الجديدة”.
واللافت في رسالة تبون غياب المفردات التي دأب عليها الجزائريون في المناسبات التاريخية من طرف مسؤولي الدولة، واكتفى بتوجيه رسائل الغزل للجالية المهاجرة، والترويج لسياسات السلطة الجديدة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، دون ذكر ما يتصل بالمجازر المذكورة، ولا بالتنديد بممارسات السلطة الفرنسية الاستعمارية، وهو ما يعتبر رغبة في عدم إزعاج حليفه في قصر الاليزيه، والتأكيد على النهج الجديد في علاقات البلدين.
وفي نفس الاتجاه ذهب رئيس الوزراء أيمن بن عبدالرحمن الذي ذكر في تدوينة له على حسابه الرسمي في فيسبوك بأن “61 عاما مرت على هذا الحدث المفصلي الذي ترجم عمق التلاحم بين الجزائريين في الداخل والخارج مشكّلا نسيجا وطنيا في وجه الاحتلال”.
وأكد على أن “المظاهرات مثلت نقطة تحول في مسار ثورتنا جعلت المجتمع الدولي يقر بعدالة القضية الجزائرية وتدويلها في أجندة منظمة الأمم المتحدة، إنه تاريخنا المجيد الذي به نفتخر ومنه نقتدي لبناء جزائر جديدة”.