هجرت السلطات الاستعمارية الفرنسية الآلاف من الجزائر خلال عقود الاحتلال إلى كاليدونيا الجديدة في ظروف مأساوية عقابا لهم على تمردهم عليها، لكن اللافت أنه وبعد مرور ستين عاما على استقلال الجزائر، تبقى أجيال من هؤلاء خارج التسويات السياسية بين الجزائر وفرنسا، فلا السلطات الجزائرية تقربت من أبنائها ومكنتهم من وطنهم الأم، ولا فرنسا تعترف بجرمها في حق هؤلاء الذين عمرت بهم أرضا ليست أرضها.
يستمر غياب قضية ما يعرف بـ”جزائريو كاليدونيا” عن اهتمامات الدوائر السياسية والإعلامية في الجزائر وفرنسا، رغم أنها تدخل في صميم الحقبة الاستعمارية (1830 – 1962 )، وباستثناء بعض الإشارات النادرة، فإن آلاف الجزائريين لا زالوا يبحثون عن اعتراف سلطة ينتمون اليها وما ارتكب في حق أجدادهم، وعن وطن أصلي لا زال يصد أبوابه في وجوههم.
وفيما تبقى فئتا “الحركي” و”الأقدام السوداء”، تتصدران تجاذبات الذاكرة المشتركة بين الجزائر وفرنسا، ويبحث لها عن مخرج توافقي بين سلطتي البلدين، يستمر تجاهل جزائريي كاليدونيا، رغم ما يمثلونه من مأساة إنسانية، انتهت إلى واقع جديد لا زالت تهزه مشاعر الألم والجحود.
ولا زالت الأجيال الشابة تحمل في أعماقها الروايات المروعة التي سردتها عليها أجدادها، حول الترحيل القسري إلى أرض تبعد عن أرضهم بـ22 ألف كلم، فاستعمروا بالإكراه أرضا غير أرضهم وانقطعت أواصرهم عن وطن وأهل إلى الأبد.
ويبدو أن باريس التي تتواجد في طريق التسوية مع الجزائر حول ملف التاريخ والذاكرة، لا تريد الالتفات إلى القضية أصلا لأن الجزيرة في حكم أراضي ما بعد البحار، وسكانها هم مواطنون فرنسيون، سمحت لهم في السنوات الأخيرة بالاستفتاء حول الاستقلال أو البقاء تحت لوائها، وكانت الأغلبية للفئة الثانية، أما الجزائر فلا تعد إلا بعض الإشارات إلى أبناء يحنون إلى وطن أجدادهم، لكنهم خارج حقوق المواطنة الجزائرية أو رعايتهم، ولو تم التفكير بجدية في المسألة لأصبحت كاليدونيا الجديدة امتدادا جزائريا بفضل هؤلاء.
◙ السلطات الجزائرية لو فكرت بجدية في المسألة لأصبحت كاليدونيا الجديدة امتدادا جزائريا بفضل هؤلاء المنفيين
وإذا كان للحركي والأقدام السوداء حظ في أي تسوية مستقبلية بين البلدين، فهم يقعون في صلب التاريخ والذاكرة المشتركة، فإن جزائريي كاليدونيا ظلوا خارج التسويات السياسية بين البلدين، والمسألة تستوجب نضالات كبيرة لإعادة الاعتبار إليهم سواء من طرف سلطتهم أو من سلطة وطنهم الأم.
واكتفت زيارة رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيت بورن إلى الجزائر بالتلميح فقط إلى مسألة التاريخ والذاكرة المشتركة، لاعتقاد قيادتي البلدين بأن لجنة الخبراء والمؤرخين المشتركة هي التي ستحسم في الملف، وأنه لا مجال في مستقبل علاقات البلدين للمزيد من الخلافات في هذا الشأن، ما سيساهم في طمس أكثر لقضية جزائريي كاليدونيا.
وهي المهمة التي تكون قد اضطلعت بها جمعية “أحفاد المنفيين”، التي استغلت ستينية الاستقلال الجزائري لإطلاق صرخة للاستماع إلى ما أسمته بـ”الألم الصامت”، في إشارة إلى المعاناة التي عاشها أجدادهم بداية من أحكام التهجير الجائرة في حق هؤلاء، إلى ظروف الترحيل المأساوية ومرورا بالاستيطان في وطن الغربة الأبدية.
وجزائريو كاليدونيا، هم فئة من الجزائريين انتفضوا ضد الاستعمار الفرنسي في العقود الأولى لاجتياحه لبلادهم، وتتحدث الروايات التاريخية عن الفترة التاريخية الممتدة بين 1864 و1897، لاسيما خلال ثورات المقاومة الشعبية في 1870، وكان القضاء الفرنسي يحكم بنفي الناشطين والثائرين إلى كاليدونيا الجديدة.
وتذكر مصادر فرنسية أن عددهم بلغ 2100 منفي، بينما تتحدث مصادر جزائرية عن نحو 300 ألف منفي جزائري إلى مختلف البقاع، وتذكر إحدى الشهادات بالقول “وصلنا بعد رحلة استغرقت خمسة أشهر، كنا فيها مكبلين بسلاسل.. لكن عدد الموتى الذين ألقيت جثثهم في البحر خلال العبور ما زال مجهولا”، ويعرف هؤلاء بأصحاب “قبعات القش” التي خصصت للمدانين.
والطيب العيفة واحد من هؤلاء الأحفاد، وقد رحل والده في آخر رحلات التهجير القسري، وفي شهادته لوكالة الأنباء الفرنسية، علق بألم وحسرة على قصة الترحيل بالقول “قصة أجدادنا كانت موضوعا محرما، لأن قانون الصمت هو الذي ساد عائلات المرحلين”، وأن الاستعمار حكم على والده بـ25 عاما سجنا نافذا قبل ترحيله، لأنه كان يدافع عن أرضه الواقعة بإحدى بلدات محافظة سطيف بشرق البلاد.. مضيفا “نحن أحفاد ذوي قبعات القش، كانوا يصفوننا بالقذرين”.
وأضاف الرجل الذي يعد أحد رموز الجالية العربية في كاليدونيا، “من المفارقات الغريبة، أننا انتقلنا من مستعمَرين إلى مستعمِرين لأراض صادرتها فرنسا من الكاناك وهم السكان الأصليون للمنطقة”.
أما كريستوف ساند، وهو عالم آثار في “معهد أبحاث التنمية” في نوميا، وحفيد أحد الذين جرى ترحيلهم، فيقول “في كاليدونيا الجديدة سعت الدولة الفرنسية، كما هو الحال في الجزائر، إلى إنشاء مستعمرة استيطانية، وجرى تحويل المرحلين إلى مستعمرين، وفي وقت لاحق أصبح بإمكان المحكومين الفرنسيين جلب زوجاتهم، لكن الجزائريين منعوا من ذلك واضطروا إلى الزواج في كاليدونيا الجديدة”.
وأضاف “الذين حكم عليهم بهذا النفي لأكثر من 8 سنوات لم يكونوا يتمتعون بحق العودة إلى الجزائر بعد انتهاء عقوباتهم، وحسب حساباتنا فهذه العملية أفضت إلى ترك ما بين 3 آلاف و5 آلاف يتيم في الجزائر”.
أما موريس سوتيريو، وهو حفيد أحد المحكومين، الذين جرى نفيهم من منطقة قسنطينة بشرق البلاد، فيذكر أن “جده ترك طفلين في الجزائر لم يرهما بعد ذلك، وأن المحكومين كانوا في كاليدونيا مواطنين من الدرجة الثانية، خصوصاً وأنهم لم يكونوا يتحدثون الفرنسية، بل فقط العربية أو الأمازيغية، ونتيجة لذلك عانى أبناؤهم بشدة من هذا التمييز، ولم يهتم سوى عدد قليل من العائلات بحماية أصولهم بفخر”.
ولفت إلى أنه مع نهاية ستينات القرن الماضي اجتمع أحفاد هؤلاء المنفيين في رابطة “العرب وأصدقاء عرب كاليدونيا الجديدة”، وفي هذا الشأن يقول الطيب العيفة “مارست العمل النقابي، واشتغلت رئيس بلدية لثلاثين عاما، ووقعت وثائق رسمية بصفتي الطيب عيفة انتقاما من التاريخ لأنني جزائري”.
ويذكر المخرج التلفزيوني سعيد عولمي، صاحب الفيلم الوثائقي “شهود الذاكرة.. منفيو كاليدونيا الجديدة”، أن عمله سلط الضوء على قساوة قانون النفي الذي سلطه القضاء الفرنسي على الأهالي الجزائريين المدافعين عن أرضهم، استنادا إلى ما يعرف بقانون “كريميو” الصادر في العام 1854 ، وهو قانون لا يختلف عن قانون “الأهالي” (الأنديجان) والتجنيد الإجباري، وأن فرنسا اختارت لهؤلاء مناطق نائية لكي يستحيل عليهم عودتهم إلى وطنهم، ومسخهم ثقافيا وحضاريا وروحيا.
ويقول عن رحلة التهجير، إنها “كانت تفتقد للشروط الإنسانية، فقد كانوا يضعون المهجرين في أقفاص حديدية ضيقة يعجز الفرد عن الوقوف مما تسبب في وفاة عدد كبير من الرجال ألقي بهم في البحر دون رحمة، وقد تم تقسيم الجزائريين هناك على مناطق متفرقة على غرار جزيرة الصنوبر التي خصصت للمقاومين والثوار مثل أتباع المقراني الذين لم يتمكنوا من العودة إلى أرض الوطن إلا بعد 1904، فيما أجبر آخرون على الاستقرار في أراض جديدة مع مرحلين فرنسيين صنفوا آنذاك ضمن مرتكبي الشغب والجريمة”.
ولفت إلى أنه أنهى عمل وثائقي جديد هو الآن قيد التركيب سيعرض قريبا بعنوان “النفي إلى جحيم غويانا (1850 – 1939)” سيكون تتمة لسلسلة “شهود الذاكرة” التي بدأها منتصف الألفين والتي تعنى بالبحث عن آثار المنفيين الجزائريين الذين بلغ عددهم 20 ألف منفي إلى أراضي بعيدة ومجهولة لديهم.
وفيما تجري باحتشام دراسة ملفات بعض طالبي الجنسية من أبناء وأحفاد منفيي كاليدونيا، تكتفي الجزائر إلى حد الآن بإشارات بسيطة إلى قضية الجزائريين المنفيين من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية، حيث تم تخليدهم بجدارية دشنها الرئيس عبدالمجيد تبون خلال احتفالية ستينية الاستقلال في يوليو الماضي.