فرنسا أهملت علاقاتها مع المغرب بارتكابها أخطاء كثيرة قاتلة، آخرها محاولة باريس إقحام المغرب في موضوع منع المعارض فرحات مهني رئيس الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل من الظهور في برنامج حواري على إحدى القنوات الفرنسية، حيث تصدت سفارة فرنسا بالمغرب للرد على منتقدي هذا المنع الذي أرجعه مدير المحطة إلى قرار قصر الإليزيه. فما هي علاقة المغرب بموضوع فرنسي – جزائري لا يمثل بالنسبة إليه أي أهمية، ولا يتقاطع مع برامجه السياسية والإعلامية والدبلوماسية؟
مؤشرات كثيرة واضحة تشير إلى وجود أزمة بين المغرب وفرنسا، من بينها غياب التواصل بين مسؤولي البلدين وانعدام اللقاءات الرسمية الثنائية، إلى جانب فراغ دبلوماسي داخل سفارة باريس في الرباط إثر قرار نقل السفيرة هيلين لوغال إلى بروكسل للعمل من داخل هياكل الاتحاد الأوروبي.
هذا يعني أن الأمور ليست على ما يرام، ويزيدها تعقيدا سلوك القيادة في قصر الإليزيه تجاه المملكة، وآخرها بلاغ غريب لا يراعي الأعراف الدبلوماسية صدر عن السفارة الفرنسية بالرباط نفت فيه تدخل السلطات الفرنسية لإلغاء مقابلة قناة فرنسية مع فرحات مهني رئيس ما يعرف بـ”جمهورية القبائل”.
في تفاعل سريع للمغرب مع هذا الاستفزاز لسيادة المملكة، تساءل مصطفى بايتاس الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان الناطق الرسمي باسم الحكومة عمّا “إذا كان بلاغ السفارة الفرنسية يدخل في إطار الأعراف، وعمّا إذا كانت السفارات الفرنسية في باقي الدول تقوم بالأمر نفسه”.
خطط تعزيز السيادة الأوروبية مرتبطة بقضايا الأمن وحماية الحدود ومراقبة الهجرة، وهي مجالات يلعب فيها المغرب دورًا أساسيًا في استقرار الاتحاد الأوروبي
تصرفات غير مدروسة توحي بتخبط أصحاب القرار الفرنسي، ففي الشهر الماضي صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشكل منفرد، وفق ما أظهره فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي، أنه يُخطط لزيارة المملكة المغربية في أواخر أكتوبر الجاري. لم يتفاعل المغرب مع الموعد الذي حدده ماكرون، ما يعني أن تصريحه بالون اختبار أراد من خلاله جسّ نبض الرباط. وهو ما يدفع إلى التساؤل حول ما يعنيه هذا التصريح المنافي للأعراف الدبلوماسية.
منذ عام 2015، على وجه الخصوص، شهدت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا تقلبات عديدة، وشهدت آخر ولاية يسارية برئاسة فرانسوا هولاند قطيعة طويلة بين فرنسا والمملكة، ودخلت العلاقات الثنائية بين البلدين مرحلة برود مستمر.
إلى اليوم، لا تزال المسافة بين باريس والرباط تتباعد، وتنعكس بشكل رئيسي على المستويين الاجتماعي والثقافي، حيث باتت الفرانكفونية أقل أهمية بالنسبة إلى المغرب، وهذا سبب من أسباب عديدة تؤرق صناع القرار الفرنسي لما تلعبه اللغة من دور هام في تعزيز نفوذ باريس داخل المغرب. وبتحول الاهتمام إلى اللغة الإنجليزية تفقد فرنسا هذا الامتياز الذي تحارب للحفاظ عليه دون جدوى.
تحولت رئاسة ماكرون إلى لعب على الحبال مع المغرب والجزائر، ولكن في النهاية أعطى الرئيس الفرنسي المصالحة مع الجزائر الأولوية، مقدما بعض التنازلات المتعلقة بالذاكرة التاريخية طمعا في إبرام اتفاقيات تتعلق بالغاز. فباريس لا تريد إغضاب الجزائر، وبالتالي فإن معادلة التوفيق في العلاقات تغدو مستحيلة.
لم يكن ماكرون الشريك الذي كان المغرب يأمله. لهذا اقتنعت المملكة باستبعاد احتمال قيام فرنسا بالترويج لمخطط الحكم الذاتي، بعد أن اعترفت الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء، وأبدت عزمها على تعزيز الأمن في منطقة الساحل، وهي بؤرة ساخنة للتهديدات الإرهابية التي كانت جزءًا من العمل الخارجي لفرنسا في السنوات الأخيرة.
على المستوى السياسي والدبلوماسي، هزت عدة خلافات العلاقات بين باريس والرباط، منها فضيحة “ابتزاز” الصحافييْن الفرنسيين إريك لوران وكاثرين غراسييت للمؤسسة الملكية بالمغرب باختلاق قضايا لا وجود لها، وقد تمت إدانتهما من طرف القضاء الفرنسي.
يضاف إلى هذه الخلافات قطيعة أخرى حول موضوع الهجرة، حيث توقعت الرباط ألا تخفض فرنسا عدد التأشيرات الممنوحة لمواطنيها على غرار تونس والجزائر، إلا أن باريس استمرت كنوع من الضغط في خفض عدد التأشيرات الممنوحة لكافة الفئات دون تقديم أي مبررات موضوعية، الأمر الذي اعتبره وزير الخارجية المغربي بمثابة “عقاب جماعي وقرار غير مبرر”.
كان المغرب، ولا يزال، يريد من باريس أن تحذو حذو واشنطن ومدريد وبرلين، وتعترف بشكل لا يقبل أي تأويل بالسيادة المغربية على الصحراء
ما لم تستطع باريس تقبله هو أن يحل التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والمغرب محل الاحتكار الفرنسي، لاسيما على مستوى المخابرات وعلى مستوى التسلح أيضًا، حيث يواصل المغرب بناء قوته العسكرية من خلال الحصول على إمدادات من مصنّعي الأسلحة الأميركيين والإسرائيليين والأتراك والصينيين، مستغنيا بشكل جذري عن الصناعة الفرنسية في هذا المجال.
كان المغرب، ولا يزال، يريد من باريس أن تحذو حذو واشنطن ومدريد وبرلين، وتعترف بشكل لا يقبل أي تأويل بالسيادة المغربية على الصحراء. المغرب يريد موقفا صريحا دون مواربة من باريس، بينما فرنسا تتلكأ في هذا الجانب، رغم أن الولايات المتحدة وإسبانيا سجلتا مواقف متقدمة في هذه القضية.
في يناير الماضي، تولت فرنسا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لستة أشهر، لكنها فشلت في الدفاع عن مصالح المغرب داخل الاتحاد بشكل فعال وبعيدا عن الابتزاز الاقتصادي والسياسي، كما فشلت في إقامة تحالف جديد مع أفريقيا، لأن التواصل مع المغرب في أدنى مستوياته، بينما جدول أعمال فرنسا داخل القارة يحتاج إلى دعم المغرب، وهذا ما يؤرق باريس.
انعدام الثقة المتزايد بين البلدين لا يجعل للعلاقات الثنائية أفقا للعودة إلى ما كانت عليه خلال عقود سابقة. قبل كل شيء، ومع تزايد اهتمام المغرب بأفريقيا، نرى خسائر متتالية وتراجعا للنفوذ الفرنسي في دول أفريقية بسبب إستراتيجية أبوية استعلائية وفاشلة في جميع القطاعات.
خطط تعزيز السيادة الأوروبية مرتبطة بقضايا الأمن وحماية الحدود ومراقبة الهجرة، وهي مجالات يلعب فيها المغرب دورًا أساسيًا في استقرار الاتحاد الأوروبي، وستكون محور العمل الذي تستخدمه الرباط لتحقيق مصالحها على الرغم من وجود عقبات في الطريق قد يكون بعضها من صنع الدوائر الحاكمة في فرنسا.
منذ تعيينه قبل أشهر قليلة، يكافح محمد بنشعبون سفير المغرب في باريس لإعادة إحياء اتصالات رفيعة المستوى مع الفرنسيين، لكن يبدو أن فرنسا تفتقر إلى رجال دولة متمرسين يساهمون في المحافظة على العلاقات مع المغرب بعيدا عن النظرة الاستعلائية الاستعمارية، لهذا سيكون من الصعب للغاية رؤية انتعاشة في العلاقات بين البلدين كما كانت عليه في السابق، خصوصا إذا استمرت باريس في تجاهل حقيقة أن المغرب طور آليات كثيرة للدفاع عن سيادته على كافة الأصعدة، ولن يكون معقلا بديلا للنفوذ الفرنسي الذي فقدته في غرب أفريقيا.