من أكثر الأمور المستطرفة التي مرت عليّ في السنوات القليلة الماضية، هو السجال المغربي – الجزائري، حول الأحقية ببعض الأمور المتعلقة بالتراث والثقافة، بدءا من موسيقى الراي، وطبق الكسكسي، وانتهاء بالزليج (فن الفسيفساء).
السجال حول هذه القضايا كان معتادا ومستمرا بين جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يخلو من الطرافة، حين يسرد كل فريق أدلته التاريخية لتأكيد أحقيته بالقضية محل النزاع.
ولطالما عبّرت عن رأيي في كل قضايا المغرب وشمال أفريقيا وغربها دون تردد أمام أصدقائي المغاربة والجزائريين على حد سواء، ذلك لاعتزازي الكبير وانتمائي لهذه الثقافة الرائعة والمتفردة التي تتمثل في إرث شمال أفريقيا الذي لم يخب نجمه منذ عهد الرومان وقبلهم الفراعنة وإلى يومنا هذا.
◙ الدراسات الجينية اليوم أثبتت أن خارطة وجود قبائل المغرب الأصلية اليوم عصية على الجغرافيا، فقبيلة صنهاجة الشهيرة أو الشاوية، موزعة بين جميع دول المغرب
والمغرب بمفهومه التاريخي إذا ما أردنا النظر ومعرفة أصل الأشياء، هو الأدنى الذي يمثل تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا، والأوسط، الذي حدد بشمال الجزائر ويمتد من نهر ملوية غربا إلى تخوم بجاية وبلاد الزاب شرقا، وكذا الأقصى، الممتد من وادي ملوية شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن البحر المتوسط شمالا إلى بلاد شنقيط جنوبا.
هذا برأيي هو المدماك الذي يجب الاستناد إليه إذا ما أردنا معرفة أصل الأشياء وتاريخها وإلى من تنتسب، ولا ريب أن اللغط سيطول إذا ما اعتبرنا الجغرافيا آنفة الذكر، والتي يتضح بجلاء تداخلها، في زمن لم تكن قد وجدت فيه الحدود المتعارف عليها اليوم، فإذا ما أردنا البرهنة على أن قضية ما هي جزائرية أم مغربية، فأيّ مغرب أو جزائر نقصد، خاصة أن بعض القضايا محل النزاع عمرها المئات من السنين وجدت قبل أن توجد الحدود المتعارف عليها اليوم.
وعلى سبيل المثال، فإن طبق الكسكسي المختلف فيه، هو طبق شمال أفريقي صرف، عثر على أواني طبخ تشبه تلك المستخدمة في تحضيره في مقابر تعود إلى فترة الملك ماسينيسا (238 – 148 ق.م).
وخلال اجتماع الدورة 15 في ديسمبر 2020 للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابع لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو)، أدرج الطبق والمعارف الخاصة بإنتاجه واستهلاكه ضمن قائمة التراث اللامادي الإنساني لدول المغرب العربي الخمس.
ولا شك أن ما ينطبق على الجزء هنا ينطبق على الكل، ونضيف إلى ما سبق، الإرث الأندلسي العظيم في كل المعارف والفنون، والذي آل إلى منطقة المغرب الكبير.
وإذا ما استعرضنا “روح الملحمة المغربية” كما أحب تسميتها، حينها فقط سندرك قيمة هذه الجغرافيا وهذا التراث وإنسان هذه الأرض، وعظمة ما يشترك فيه أكثر من ادعاءات ما يفرّقه، وهو ما لاحظه المؤرخ غابرييل كامب في كتابه “البربر، ذاكرة وهوية”، حين أشار إلى سبب تأليف كتابه عن هذه الأمة وذاكرتها الحية التي أبت الموت والانهزام أمام أعتى جيوش العالم، بدءا من الرومان قديما وحتى دخول أحدث مستعمر غربي إلى أرضهم.
وخلاصة غابرييل كامب أنه لاحظ موت واندثار ثقافة معظم الأمم المماثلة للبربر عبر التاريخ ممن أضحى تاريخهم أثرا بعد عين، فاندثر تاريخهم وأدواتهم وذاكرتهم فضلا عن لغاتهم، وهو ما حدث للسومريين والمصريين والكنعانيين والفينيقيين، الذين اندثرت ثقافتهم ونمط حياتهم الذي أصبح في المتاحف اليوم.
◙ المغرب بمفهومه التاريخي إذا ما أردنا النظر ومعرفة أصل الأشياء، هو الأدنى الذي يمثل تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا، والأوسط
ففيما تلزمنا جولة في المتاحف والمكتبات للوقوف على تاريخ تلك الأمم، من حيث مشاهدة لباسهم وأطعمتهم ولغتهم وكتاباتهم، نجد كل ذلك التراث المادي الذي توارى عن حياتهم، موجودا اليوم في المغرب حيا ناطقا، فلا يزال أحفاد مغاربة الأمس وأقصد مغرب ما قبل الفتح الإسلامي، يتحدثون لغتهم الأمازيغية ويكتبون حروفها، ويعتمرون عماماتهم وسلهامهم الذي كان الملك ماسينيسا يلبسه، ولا تزال الموائد عامرة بذات الطيبات التي عمرت بها قبل المئات من السنين.
وكي لا أطيل الحديث فإن مغرب اليوم، أدناه وأوسطه وأقصاه، ما هو إلا نتاج تلك الملحمة التي سطرتها القبائل العظيمة، التي أبت الانهزام والاندثار أمام الرومان والوندال والأمويين والإسبان والبرتغاليين والفرنسيين، وأبت إلا أن تحافظ على ثقافتها وهويتها دون أن تذوب في ثقافة أخرى، الهوية التي حفظت لها كينونتها ووجودها ولحمتها، فمن أين سيصيبني الغضب وأنا واحد من أحفاد تلك القبائل، إن كانت أمجادي موزعة بين فاس وتلمسان، أو بين قرطاجة وتمبكتو، فكلها أرضي، وجميع من فيها من لحمي ودمي.
وقد أثبتت الدراسات الجينية اليوم أن خارطة وجود قبائل المغرب الأصلية اليوم عصية على الجغرافيا، فقبيلة صنهاجة الشهيرة أو الشاوية مثلا، موزعة بين جميع دول المغرب، فإن وجدنا إرثا ماديا أو شفهيا لصنهاجة اليوم، فإلى من سننسبه وهي موزعة بين جميع الدول.