قرار الرئيس الكيني وليام روتو العدول عن اعتراف بلاده ببوليساريو يخدم كينيا بالدرجة الأولى، وذلك بعدما اقتنعت القيادة الجديدة أن هذا الكيان الوهمي لم ولن يقدم الدعم الذي تنتظره على مستوى الاقتصاد والأمن الغذائي والتبادل التجاري والسياسة، ولم تقف مناورات فريق الرئيس السابق الذي فوجئ بسحب الاعتراف أمام رغبة وحاجة الرئيس الجديد إلى تحقيق وعوده في ما يتعلق بتحسين إنتاج الغذاء وضمان الأمن الغذائي على المدى الطويل، الذي يمر قطعا عبر الأسمدة المغربية.
غذى حذف تدوينة الرئيس الكيني التي أكد فيها على قطع العلاقات مع الجمهورية الورقية شائعات كثيرة قادمة من المعسكر المؤيد للطرح الانفصالي، شائعات تدعي أنه دليل على تشبث القيادة الكينية الحالية بالموقف الذي اعتمدته كينيا منذ عام 2014. لكن حذف تغريدة أو إبقاءها لا يحدد مسار السياسة الخارجية لدولة مثل كينيا، هذا البلد بدأ يعرف أن طريقه نحو الرخاء لا يمر عبر بوليساريو، حقيقة عبر عنها الرئيس الجديد، ولم يكن ليجازف بقرار قطع علاقات بلده من الكيان الانفصالي، لو لم يكن متأكدا من آثاره السياسية والاقتصادية على كينيا.
ما أشبه اليوم بالأمس عندما شكك الكثيرون في استمرارية الإدارة الأميركية على نهج الرئيس السابق دونالد ترامب في ما يتعلق بموضوع الصحراء المغربية، عندما عبر ترامب عن قراره الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه من خلال تغريدة على تويتر، ولا زال القرار صامدا إلى الآن بل جرت الكثير من المياه تحت جسر العلاقات الثنائية بين واشنطن والرباط دعمت موقف المغرب.
◙ نيروبي لا تريد أن تخسر الرباط مقابل “بوليساريو الدولة الوهمية” والتي قرارها مرهون بيد الآخرين
لهذا بادر رايلا أودينجا رئيس الوزراء السابق ومنافس وليام روتو في الانتخابات الرئاسية إلى نفي تقرير حاول توريطه سياسيا بأنه انتقد الموقف الجديد الذي تبناه الرئيس الكيني في ما يتعلق بملف الصحراء، معترفا بشكل صريح ولا غبار عليه بأهمية العلاقات بين كينيا والمغرب والتي ستعود بالفائدة على البلدين، وهذا يعني أن هناك اتفاقا بين الطرفين على نهج الدبلوماسية الهادئة للتعاطي مع هذا الملف، خصوصا مع عدم تشكيل حكومة جديدة والتي لا تعرف مكوناتها حتى الآن.
الرئيس وليام روتو كان له موقف إيجابي من ملف الصحراء بدعمه لمخطط الحكم الذاتي حينما كان نائبا للرئيس السابق، ولم تكن تلك التغريدة نابعة من فراغ سياسي أو سوء تقدير للموقف بقدر ما هي علامة فاصلة بين كينيا السابقة وكينيا الجديدة، كينيا التي وعد بأن تكون “شفافة ومنفتحة وديمقراطية”، تنحو طريق البراغماتية والواقعية السياسية في اتخاذ القرار، ودون تحفظ قال بأن بلاده تدعم العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة باعتبارها الآلية الوحيدة الكفيلة بمساعدة الأطراف على التوصل إلى حل سياسي.
زيارة وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إلى نيروبي ليلة تنصيب الرئيس الجديد وتقديمه رسالة خطية من العاهل المغربي الملك محمد السادس تدبير استباقي لأي تلاعب من طرف أنصار بوليساريو داخل العاصمة، وحماية لموقف كينيا الجديدة الذي كان ثمرة عمل دبلوماسي سابق مركز ودقيق، كون المغرب ينظر إلى الدور المهم الذي تلعبه كينيا في أفريقيا كواحدة من أهم قواها، وبصفتها عضوًا غير دائم في مجلس الأمم المتحدة، فإن موقف كينيا مهم بشأن قضية الوحدة الترابية.
◙ زيارة ناصر بوريطة إلى نيروبي ليلة تنصيب الرئيس الجديد وتقديمه رسالة خطية من العاهل المغربي الملك محمد السادس تدبير استباقي لأي تلاعب من طرف أنصار بوليساريو داخل العاصمة
هناك عبء ثقيل على الاقتصاد، وتتطلب التحديات الاقتصادية اهتمامًا عاجلاً من رئيس يبدو غير منزعج من تعامله الجيد والواقعي مع الأزمات السياسية، فكينيا تمر بأسوأ موجة جفاف منذ أربعة عقود، وأسوأ غزو للجراد منذ سبعة عقود، بالإضافة إلى آثار وباء كوفيد، إلى جانب الديون، إذ ارتفع الدين العام بنحو خمسة أضعاف إلى 72 مليار دولار، والتأثير التضخمي للحرب في أوكرانيا، حيث ارتفع معدل التضخم إلى 9 في المئة، وهو أعلى معدل له في خمس سنوات، وتقدر نسبة البطالة بـ14 في المئة، وتتطلب مشاكلها حلولا سريعة وعملية.
الوضع في كينيا ليس مجرد أزمة واحدة حيث يواجه الكينيون ذوو الدخل المنخفض والمتوسط نقصًا في الغذاء والوقود، ويراهن معارضو الرئيس وليام روتو على أنه من غير المرجح أن يفي بوعوده الاقتصادية المبكرة، مما سيعيق قدرة حكومته على تنفيذ إجراءات ضبط أوضاع المالية العامة لضمان القدرة على تحمل الديون، وتحقيق وعوده السياسية.
بعد تنصيبه في الثالث عشر من سبتمبر الجاري كرر روتو التزامه بالتخفيف من أزمة تكلفة المعيشة في كينيا خلال أول 100 يوم له في منصبه، وتشمل التدابير المقترحة توسيع برنامج التغذية المدرسية، وزيادة الاستثمار في الزراعة، مع خفض أسعار الأسمدة، وجمع الأموال لتزويد الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم بإمكانية موثوقة للحصول على الائتمان تماشيا مع رفضه للإنفاق المرتفع على تدابير المساعدة المباشرة.
المملكة المغربية مستعدة للتعاون مع الرئيس الجديد في تحقيق طموحاته وسياساته، وتعتبر كينيا دولة يمكن أن تقيم معها تعاونا تجاريا متبادلا وتنسيقا في السياسات والرؤى والمواقف، لهذا يقترح المغرب تكثيف التعاون مع كينيا الجديدة في مجالات التجارة والزراعة والصرف الصحي، والصحة والسياحة والطاقة، من بين أمور أخرى على رأسها الفوسفات المادة الحيوية لتطوير الزراعة في كينيا.
◙ حذف تغريدة أو إبقاءها لا يحدد مسار السياسة الخارجية لدولة مثل كينيا، هذا البلد بدأ يعرف أن طريقه نحو الرخاء لا يمر عبر بوليساريو
كان وليام روتو قد وعد بالإعلان عن أسعار جديدة لدقيق الذرة والأسمدة، مشيرًا إلى أن السياسة الواقعية تعني تقاربًا مع المغرب في مجال الأسمدة الحاسم، باعتباره الوجهة الرئيسية لكل الدول التي تسعى للرفع من إنتاجها الزراعي من أجل تحقيق أمنها الغذائي.
طموحات الرئيس الجديد كبيرة، فهو يملك إرادة لإعادة جدولة ديون كينيا لتقليل تكاليف الخدمة وتحرير الموارد من أجل التنمية، فكينيا كما يراها لديها القدرة على سداد قروضها، مع تعهده بزيادة الإنفاق الاجتماعي للأسر الأشد فقرًا، خاصة وأن كينيا توجد في خطوط الصدع الداخلية والإقليمية تحركها تناقضات السياسة والعرق والدين والطبقة، ومن الضروري حل الأزمات بسرعة وفعالية، وطموحات الرئيس تحتاج إلى موارد مالية، ومن الأكيد أن المصارف المغربية والشركات المستثمرة في القارة مستعدة للتفاعل مع تلك الطموحات إيجابيا.
اليوم تدرك كينيا الجديدة أن الدبلوماسية الملكية خطت خطوات كبيرة داخل القارة وتعززت بعودة الرباط قبل خمس سنوات إلى الاتحاد الأفريقي بثقلها وعلاقاتها المتينة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا واستثماريا مع دول غرب وشرق أفريقيا، ولا تريد نيروبي أن تخسر الرباط مقابل “بوليساريو الدولة الوهمية” والتي قرارها مرهون بيد الآخرين، وينبغي لبعض السياسيين ألا يسقطوا في فخ اللاواقعية والشعبوية وعرقلة مسار الأمور ووضع حد للتعامل مع كيان لا فائدة ترجى منه على كافة الأصعدة.