تونس: كل الأطراف تتراشق بالاتهامات

مرزوقي

يبدو أن هناك في تونس أزمة ثقة متعددة الاتجاهات ومترامية الأطراف، ومتشعبة التفسيرات: أزمة ثقة بين الحكومة التي تكثر من الوعود والتفاؤل والشعب الذي يكثر من التذمر والاستياء، وكذلك بينها وبين المنظمة النقابية التي تردد دائما “إنما للصبر حدود” كلما حنثت الحكومة بوعودها مما استوجب تدخل طرف ثالث غير تونسي للتدخل وإحلال الهدنة.

أزمة ثقة بين الفئات العريضة من ذوي الدخل المحدود وأصحاب الرواتب المتدنية التي تشتكي من الاحتكار في ظل فقدان المنتجات الأساسية، وبين التجار الذين ينفون ذلك مؤكدين أن المواد الأساسية تخضع لسيطرة الحكومة المسؤولة عن توزيعها، وأن ما يحدث عصي عن الفهم.

أما الأنكى من ذلك كله فثمة حديث عن أزمة ثقة بين الدولة التونسية والأسواق العالمية في ظل بلوغ حالة التضخم أرقاما قياسية والعجز عن توفير السيولة المالية للشحنات وعدم قدرة الدولة على الدفع للموردين الأجانب.

◙ الإسلاميون في تونس لم يتوانوا عن الإدلاء بدلوهم والاصطياد في المياه العكرة فتزعم بعضهم الوقفات الاحتجاجية، واستغلوا الوضع المعيشي الصعب للانقضاض على سياسة الرئيس

ونتيجة لذلك؛ غادرت عدة شحنات من السكر وبضائع أخرى الموانئ التونسية دون تفريغ حمولتها، كما يؤكد مسؤولون من داخل وزارة التجارة رفضوا الكشف عن أسمائهم للإعلام.

والأزمات تتناسل بطبيعتها، فلقد أثرت أزمة فقدان السكر مثلا، في وجود أزمة توقف العديد من المصانع عن الإنتاج مما يتسبب في تسريح المئات من العمال، ومواجهة حالة بطالة غير مسبوقة مما يزيد في الطنبور نغما كما يقول المثل المعروف، إذ “ليس للسقوط قاع”.

هذه الخوارزميات المتعاقبة من أزمات الثقة بين الأطراف المتعددة في تونس، تعود أسبابها إلى تأخر شديد من قبل الحكومة، وكذلك اتحاد الشغل، في تشخيص الأزمة بل وحتى التحدث عنها صراحة دون مواربة أو مكابرة، إذ لم نسمع منهما أي تفاصيل عن ستة أشهر على الأقل من التضخم وقلة المعروض من المواد الاستهلاكية وتأثيرها على حياة الناس.

كانت الأزمة تتضخم في الظل بعيدا عن تسليط الضوء والتحدث عنها بمنتهى الوضوح والصراحة، وكأنها غير موجودة ضمن “سياسة نعامية” لم تعد مجدية.

غاب عن الحكومة والاتحاد أن الأمر لم يعد كما هو الحال في الماضي، وذلك بسبب السوشيل ميديا.. وحتى هذا “الماضي” القريب أي قبل انتفاضة 2011، كان الفضل في تقويضه يعود إلى شبكات التواصل الاجتماعي، فما بالك بواقع الآن وقد بلغت شبكة الإنترنت حالة من السطوة لا يمكن إيقافها أو التحكم فيها.

ترك هذا الصمت والتجاهل للشبكات الاجتماعية الفرصة للإدلاء بدلويها لما تحتويه من غث وسمين، وما يقال فيها من حقائق وأكاذيب، مما حدا بالرئيس قيس سعيد إلى إصدار قانون كثير التشدد في ما يخص الجرائم الإلكترونية المتضمنة لحالات الثلب والتشهير.

هذا القانون الذي يصفه مؤيدوه بالقوي والرادع، ويعتبرونه إجراء لا بد منه لإيقاف فوضى التعريض والاتهامات على الإنترنت، هو بمثابة معالجة الخطأ بالخطأ في نظر الكثير من المهتمين بالشأن التونسي.

وفي هذا الصدد قالت لجنة الحقوقيين الدولية في تقرير لها منذ يومين إن المرسوم الذي أصدره الرئيس التونسي سعيد، دون أي استشارة أو نقاش عام، يهدد الحق في حرية التعبير والخصوصية في تونس، ويجب إلغاؤه على الفور.

ودعت اللجنة الرئيس سعيد إلى التراجع عن جميع القرارات وإلغاء جميع المراسيم التي “تقيد بشكل تعسفي الحقوق والحريات الأساسية” وفق ما جاء في التقرير.

كانت هذه هي نتيجة التكتم غير المبرر عن الأزمة الاجتماعية العاصفة في تونس، وكان هذا هو حال من لا يصارح نفسه ويواجهها بوجود أزمة تتفاقم وتمس من الهم المعيشي للفئات العريضة من المجتمع.

◙ الخوارزميات المتعاقبة من أزمات الثقة بين الأطراف المتعددة في تونس، تعود أسبابها إلى تأخر شديد من قبل الحكومة، وكذلك اتحاد الشغل، في تشخيص الأزمة

جل ما نخشاه أن تبدأ مسبحة الاقتصاد التونسي بالانفراط التدريجي، وتصعب معالجة الموضوع بعد ذلك: نقص في المواد الأساسية ثم احتكار ففقدان لها من الأسواق ثم غلاء فاحش وسط تضخم مالي كارثي، والنتيجة أزمة خانقة تتناسل عنها أزمات موازية في ظل احتقان اجتماعي ينذر بزلزال سياسي وعزلة دولية.

المتفائلون في تونس يدعون إلى عدم المبالغة في الحديث عن الأزمة المعيشية، ويربطون هذه الفزاعات بأجندات سياسية تحاول استخدام أزمة النقص في بعض المواد الغذائية وتحويلها إلى سلاح لمحاربة الرئيس سعيد ومشروعه الإصلاحي.

الإسلاميون في تونس لم يتوانوا عن الإدلاء بدلوهم والاصطياد في المياه العكرة فتزعم بعضهم الوقفات الاحتجاجية، واستغلوا الوضع المعيشي الصعب للانقضاض على سياسة الرئيس الذي أخرجهم من الحكم عبر سلسلة إجراءات تطهيرية بدأت منذ أكثر من عام بتجميد البرلمان وحل الحكومة التي يسيطر عليها الإسلاميون.

الصورة التي تحمل بعدا كاريكاتيريا وتناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي تتمثل في ظهور أحد قياديي حركة النهضة يتزعم وقفة احتجاج على غلاء المعيشة وفقدان المواد الأساسية وهو يمسك بقنينة زيت، علما أنه يمتلك معاصر زيت كثيرة ويحتكر موادا غذائية مع شركائه.

الصورة تتبادلها مواقع التواصل الاجتماعي التي تعمل الحكومة على تقنينها الآن.. وهو سؤال في ذمة الحكومة التي بدت مشوشة القدرة على تشخيص الأزمات.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: