الجزائر دولة بلا أسرار

البليدي

إذا كان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون قد انتبه ولو متأخرا إلى خطر الثقوب التي تعتري منذ سنوات مؤسسات الدولة، إلى درجة أنها صارت دولة بلا أسرار وغسيلها ينشر يوميا على شبكات التواصل الاجتماعي، فإننا لا ندري أيضا إن كان قد انتبه إلى مصادر تلك التسريبات، لأن المؤكد أن سيل المعلومات والمعلومات المضادة لن يكون مصدره إلا نافذين وفاعلين في مفاصل الدولة التي يقودها، فليس بإمكان أي كان الوصول إليها وتسريبها، لو لم يكن وراء الأكمة ما وراءها.

ولأن الإشاعة تنمو في مستنقعات التعتيم وغياب الشفافية، فإن الانحراف والتماهي ليسا وليدَيْ اليوم، فهما يعودان إلى عقود، وربما هما تقليد من تقاليد الدولة برمتها، فقد اغتيل المناضل التاريخي عبان رمضان في ذروة ثورة التحرير من طرف رفاقه، بينما روج إعلام الثورة حينها أن الرجل استشهد في ميدان الشرف، ولو كانت للثورة التحريرية ظروفها وخصوصياتها، فإن إدارة الإعلام الرسمي في الجزائر المستقلة ظلت تسير على نفس النهج؛ فقد ضرب المرض أوصال الرئيس الراحل هواري بومدين في نهاية السبعينات، لكن الشارع الجزائري كان مبعدا عن الحقيقة، ونفس الشيء عند مرض الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وكذلك الأمر منذ اندلاع احتجاجات الحراك الشعبي بداية العام 2019.

◙ لأسرار الدولة حرمتها والحاكم هو المسؤول عن صيانتها، فلا توجد دولة في العالم يعرف الناس أسماء ووجوه ضباطها كما هو الشأن في الجزائر، وهو ما يعني أن الخلل كبير جدا

الوضع في الجزائر لم يعد مجرد فشل متراكم في إدارة شأن الإعلام الرسمي، مما يسمح بهيمنة الشائعات على الرأي العام، وإنما بات يتماهى مع تسريب معلومات وملفات تدرج ضمن أسرار الدولة، والسبب ليس الرغبة في حجب الحقيقة، بل تعدته إلى ظهور آلية جديدة في حرب الأجنحة، هي حرب المعلومات والملفات، وقد وجدت في رواد شبكات التواصل الاجتماعي ساحتها المفتوحة.

وإلى سنوات ماضية كانت صراعات الأجنحة أكثر شرفا مما هي عليه الآن؛ فقد كان صدر الصحف هو الذي يتولى تصفية الحسابات عبر مقالات مفصلة أو ملفات خطيرة، كما حدث في نهاية تسعينات القرن الماضي مع الرئيس الأسبق اليامين زروال، عندما أرادت قوة نافذة التخلص منه، فأوعزت إلى أذرعها الإعلامية بنشر سلسلة من المقالات والملفات حول مدير الاستخبارات حينها والمقرب منه الجنرال محمد بتشين، فشعر زروال بالضغط واضطر إلى رمي المنشفة عام 1998.

لكن الآن التبس عمل الأجنحة مع الأصوات المعارضة داخل المؤسسات الرسمية، ومع الشائعات التي تولد في مستنقعات التعتيم، وصار “قاع القدر على سطح الصحن”. ومهما كانت النوايا والأغراض، فإن الخلاصة هي الانحراف عن القنوات الرسمية، والنتيجة هي أن غسيل الدولة صار منشورا أمام الملأ، والثقوب التي تعتري مؤسسات الدولة في تصاعد مطرد.

ملفات ومعلومات سياسية وشخصية وحتى عسكرية وسرية، تنشر ذات اليمين وذات الشمال بشكل يسيء لسمعة الدولة، ويعكس حالة غير مسبوقة من الارتباك والاهتزاز؛ فحتى الصراعات التي كانت قبل ذلك تدار بشرف، صار كل شيء فيها الآن مباحا، وانتقلت إلى صراع المعلومات والمعلومات المضادة.

تعليمات الرئيس تبون حول التزام الانضباط والسرية كانت واضحة وصريحة، لكنها كانت على ما يبدو تفتقد إلى العديد من الأشياء، لأنها ذهبت مباشرة إلى محاولة معالجة النتيجة بدل النظر في الأسباب، وأولها استتباب الاستقرار السياسي الداخلي وفتح المجال الإعلامي والحريات الصُّحفية لإفراغ الأثقال المتراكمة بدل رميها في شبكات التواصل الاجتماعي.

فمن غير المعقول أن تملك الدولة العشرات من الصحف والمواقع الإلكترونية، لكنها وسائط لا تقنع حتى مالكها وكاتبها، ولو اجتمعت كلها لا تستطيع جمع عُشر متابعي بعض المدونين على شبكات التواصل الاجتماعي، والأدهى من كل ذلك أنها تنفق ربع مليار دولار سنويا في شكل دعم لتلك الصحف والمواقع، لكنها تبقى عاجزة عن منافسة صفحات أو قنوات على فيسبوك وتويتر، وفوق ذلك تحقق أرباحا لأصحابها.

◙ تعليمات الرئيس تبون حول التزام الانضباط والسرية كانت واضحة وصريحة، لكنها كانت على ما يبدو تفتقد إلى العديد من الأشياء، لأنها ذهبت مباشرة إلى محاولة معالجة النتيجة بدل النظر في الأسباب

وكان يجدر بالتعليمات أن تبحث قبل ذلك عن أسباب تدهور ثقافة الدولة لدى موظفيها ومؤسساتها، ولجوء المصادر إلى هذا النوع من إدارة معاركها، والأكيد في أول خطوة سيجد المتابع أن قنوات التعبير والنقاش العادية معطلة، فلو وجد المعارض أو الرافض لنمط تسيير الدولة فرصة التعبير عن رأيه وطرح مقاربته ما كان ليلجأ إلى مثل هذه الأساليب، ولو وجد القارئ الحقيقة في وسائل إعلامه لما لجأ إلى تلك الصفحات والقنوات لمعرفة حقيقة ما يجري في بلاده.

صحيح أن العالم صار قرية صغيرة أو مجرد هاتف ذكي، لكن لأسرار الدولة حرمتها والحاكم هو المسؤول عن صيانتها، فلا توجد دولة في العالم يعرف الناس أسماء ووجوه ضباطها كما هو الشأن في الجزائر، وهو ما يعني أن الخلل كبير جدا، وأن هيبة الدولة تبدأ من سد الثقوب والعودة إلى القنوات العادية، وعلى السلطة أن تدرك أن كتم الأصوات لا ينهي الأنفاس بل يدفعها إلى التنفس في أماكن أخرى وبشهيق وزفير أقوى.

وإذا كانت السلطة تتغنى بكشك فيه 180 صحيفة والعشرات من المواقع، فإن العبرة تبقى في المضمون والمحتوى وليس في الكم، وإلا صار ذلك التغني نوعا من أنواع التعتيم، فما معنى أن تتسرب كل هذه المعلومات والملفات إلى مدونين على شبكات التواصل الاجتماعي وكل ذلك الكم يستنزف أموالا طائلة، ولا يقرأه مالكه ولا محرره؟ الأكيد أن هناك خللا كبيرا لا تعالجه مجرد تعليمة تحض على السرية والانضباط، بل العلاج يبدأ من البحث عن الأسباب الكامنة وراء كل هذا الانفلات المعلوماتي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: