يقدم المسرح المغربي إنجازات رائدة في محيطه المغاربي والعربي لكنه يظل حبيس أسوار العمل الرسمي وضوابطه، فأغلب الفرق المسرحية غير مستقلة، تنشط بفضل الدعم المادي الحكومي، وهي رهينة القوانين البالية والبيروقراطية الإدارية التي تسهم في عرقلة الإنتاج المسرحي عوض الإسهام في إنجاز مهمته الأساسية بالدعم والمشاركة في تطوير القطاع. لذلك يرى محللون أن على وزارة الثقافة مراجعة قوانين تنظيم الفن الرابع وطرق دعمها للمؤسسات المسرحية بالإضافة إلى تشجيع المسرحيين على البحث عن الدعم من مصادر أخرى والكف عن تنظيم عروض مجانية.
في ظل اعتماد المسرح المغربي منذ سنوات على الدعم الذي تقدمه وزارة الثقافة، والذي أصبح المسرح بدونه لا يقوى على إدارة عجلته بدليل توقفه منذ بداية جائحة كورونا عن تنشيط الساحة الفنية، يبرز التساؤل الملحّ: هل أن دعم المشاريع الثقافية والفنية في قطاع المسرح المغربي يعتبر كافيا للنهوض بهذا الفن أم أن الأمر يتطلب إعادة هيكلة هذا الفن بما يتناسب مع إنشاء صناعات ثقافية وإبداعية قائمة بذاتها في المغرب؟
ومع الدعوات والنداءات المطالبة بإصلاح كل ما له ارتباط بالإنتاج الثقافي في المغرب، أكد مهنيون أن الوقت قد حان كي يتسع مجال المطالبة بصياغة سياسة ثقافية ومسرحية تضع نصب عينيها تطوير العمل الثقافي كأحد رهانات التنمية، وحماية وضعية العاملين في هذا الحقل من مبدعين في كافة المجالات الثقافية، والخروج من دائرة الغموض والتحركات البطيئة لوزارة الشباب والثقافة والتواصل من أجل معالجة انكسارات المسرح والمسرحيين.
دعم ضروري
رغم عودة الحياة الفنية إلى نشاطها الطبيعي بقي المسرح متخلفا عن الركب في انتظار ما ستؤول إليه نتائج طلبات الدعم التي قدمتها الفرق المسرحية والتي أفرجت عنها وزارة الثقافة يوم الثالث عشر من يوليو الماضي.
وفي هذا الصدد أكد رئيس النقابة الوطنية لمهنيي الفنون الدرامية مسعود بوحسين أن الدعم المسرحي في غياب هيكلة سابقة بين المؤسسة (الفرقة) والفنان، وبن الفنان والفرقة معا من جهة والمكتب المغربي لحقوق المؤلفين من جهة أخرى، خلق وضعا اقتصاديا أصبح فيه العرض المسرحي باهظ التكلفة مقارنة بقيمته التجارية التي لا يمكن توقعها، كما أن دفاتر الحملات واللجان والوزارة ليست لها أية مرجعيات قانونية وتعاقدية واضحة.
وأشار مسعود بوحسين إلى أن الوضع الطبيعي يكمن في خضوع العمل المسرحي لمبدأ المكافأة العادلة الذي يقوم على أن الفنان المؤلف (كاتب، سينوغراف، مخرج) يكبر حجم دخله أو يقل بحسب مردود العروض.
وعموما فإن مسألة الدعم هذه تبقى خطوة ضرورية ومهمة لكنها غير كافية إذ تحتاج إلى المزيد من الترشيد، والدليل على ذلك هو تجربة العشر سنوات من الدعم التي لم تخلف أي تراكم مسرحي نوعي مغربي خالص يقنع المواطن بأن المال العام المصروف في هذا القطاع لم يذهب سدى.
وفي هذا السياق أكد عبدالرحيم راندو، كاتب مسرحي وسيناريست،أن “على وزارة الثقافة أن تغير شكل الدعم المخصص للقطاع المسرحي لأن الفن المسرحي لا نحكم عليه من خلال تقديم مشروع على الأوراق، المسرح يجمع بين التأليف والسينوغرافيا والإخراج والممثلين والتقنيين، فهناك فعل وحركة ولا يمكن لأي إنسان أن يحكم على مشروع بقول هذا جيد أو غير جيد. وفي هذه الحالة تظهر المحسوبية والزبونية، لماذا لا تجرب الوزارة شراء العروض بعد مشاهدتها من طرف لجنة وتقييمها فنيا لأن المسرح مشاهدة وإحساس، والفنان أخلاق واحترام وتواضع وليس نفاقا ومالا”.
المسرح المغربي اعتمد منذ سنوات على الدعم الذي تقدمه وزارة الثقافة، والذي أصبح بدونه لا يقوى على إدارة عجلته
كما نبه مسعود بوحسين إلى أن الدعم المسرحي أصبح معرقلا عوض أن يكون محفزا، إلا في جانبه الثقافي المحض، مشيرا إلى أن الدعم وجد لتوفير خدمات ثقافية للمواطنين وليس لمساعدة أحد، وهذا لن يتم إلا بتخفيض المخاطر على المؤسسة المنتجة والفنانين. لكن المشكلة، حسب رأيه، تكمن في القوانين والعقود ودفاتر التحملات، وفي من ينظر سياسيا وإداريا وحتى فنيا في شؤون الثقافة ويتناسى هيكلتها ومرضها بـ”هشاشة العظام”.
من جهته يعتقد الكاتب المسرحي عبدالحق قيس أن المسرح الآن هو في منزلة بين المنزلتين؛ لا هو ناشط بما فيه الكفاية ولا هو متوقف تماما، لسبب واحد هو أن هناك العديد من الفرق التي لم تستفد من الدعم بالمرة أو استفادت منه لماما، وهي فرق إن لم تنفرد كليا فهي تعاني من قلة الموارد مما يؤثر على عطائها المسرحي بشكل واضح. كما أن وضعية الدعم صاحبتها مجانية متابعة العروض ولو أن الوزارة الوصية تحث الفرق على البحث عن موارد أخرى كالدخول بالمقابل وإيجاد ممولين، والالتزام بذلك عند تقديم ملف الدعم، إلا أن هذه الأشياء تبقى حبرا على ورق.
واعتبر عبدالحق قيس، أنه “بخلاف ما وقع هذه السنة كانت الفرق التي تستفيد من الدعم هي نفسها كل سنة مع اختلاف ضئيل من سنة إلى أخرى، وما يعاب على بعض الفرق التي تستفيد من الدعم أنها لا تقوم بأي مجهود يذكر سواء كان ذلك على مستوى النصوص التي تشتغل عليها أم على بعض المستويات الأخرى، ثم تهميش الفرجة المسرحية.
مبادرة المسرح يتحرك
إثر المطالب التي رفعها مسرحيون من أجل “إنقاذ المسرح من السكتة القلبية”، خاصة في زمن إغلاق المسارح بعد عامين من الركود بفعل جائحة فايروس كورونا المستجدّ التي تضررت منها الكثير من القطاعات وبشكل خاص قطاع المسرح الذي يتسم أصلا بالهشاشة، بادرت الحكومة المغربية من خلال وزارة الثقافة، تجاوبا مع هذه المطالب، إلى الإعلان عن مبادرة غير مسبوقة، ترمي إلى تصوير مسرحيات واقتناء حقوق بثها على القنوات التلفزيونية العمومية، في إطار تظاهرة أطلق عليها اسم “المسرح يتحرك”.
وفي ديسمبر 2021 أعلنت وزارة الشباب والثقافة والتواصل بالشراكة مع الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة عن تنظيم تظاهرة مسرحية سنوية تحت شعار “المسرح يتحرك”، تهدف إلى تصوير 60 عملا مسرحيا، واقتناء حقوق بثها عبر قنوات الشركة الوطنية وعلى المنصة الرقمية للوزارة بمبالغ تتراوح بين 150 و200 ألف درهم، مع انتقاء ثلاث مسرحيات للفوز بجوائز التظاهرة، إضافة إلى جوائز في الإخراج والسينوغرافيا والنص والتشخيص.
ويسلم المبلغ المخصص للدعم إلى الفرق في شكل دفعات متقطعة قبل مشاهدة العروض وتقويمها، وهو الأمر الذي يتيح استفادة عروض ضعيفة جماليا من الدعم، ذلك أن الدراسة التي تقوم بها اللجنة لا تتعدى ملف الترشيح الذي يخضع لخمس دراسات: في المرحلة الأولى تتم دراسة الجوانب القانونية والإدارية، وفي المرحلة الثانية دراسة النصوص المسرحية المقترحة، وفي المرحلة الثالثة الدراسة الفنية، ثم الدراسة الشمولية لكل ملف مرشح، وأخيرا الدراسة المالية. وهو ما يجعل القيمة الجمالية للعمل الفني تضيع وسط اعتبارات أخرى.
وبالرغم من ذلك لم يتحرك المسرح بعد، ما دامت هذه الفرق تنتظر قرابة شهرين ونصف الشهر الإعلان عن النتائج التي طالت عملية فرزها. وهنا أكد المخرج المسرحي والتلفزيوني محمد لقمان، أن المسرح في أوج عطائه انطلاقا من الهواة الذين كانوا يتنافسون في المهرجان المنظم آنذاك من طرف وزارة الشباب والرياضة، وكانوا يبدعون على مستوى الكتابة والإخراج والديكور والسينوغرافيا. أما التمثيل فحدث ولا حرج، حيث كان الممثلون في القمة، والمسرح الاحترافي الذي خرج من جبة مسرح الهواة كان يعتمد على نفسه في الإنتاج والترويج للجولة.
وارتباطا بمبادرة “المسرح يتحرك” أوضح محمد لقمان، أن “الفرق المسرحية كانت تقوم بتنظيم جولات عبر المملكة معتمدة في ذلك على الجمهور الذي تربى على اقتناء تذكرته. والدعم المقدم آنذاك هو الدعاية في التلفزيون أما الآن فأعتقد أنه عندما جاء هذا الدعم دخل المسرح المغربي غرفة الإنعاش وينتظر أنبوبة أكسجين كل سنة حتى يعيش دون حياة”.
وهذه التجربة بالنسبة إلى عبدالمجيد شكير، رئيس فرقة “مسرح أبعاد،”، “فرصة لإعادة تجسير العلاقة بين الممارسة المسرحية والتلفزيون؛ لأن التلفزيون، شئنا أم أبينا، له سلطة معينة في دخوله إلى البيوت وتوسيع دائرة الجماهير. وبالتالي فإن عودة المسرح إلى هذه الدائرة ستعود بالنفع على المسرح، ليس فقط من الناحية المادية، بل أتحدث عن حضوره وتواجده إلى جانب إنتاجات درامية وتنشيطية أخرى”.
وفي الوقت الذي أكدت فيه الفيدرالية المغربية للفرق المسرحية المحترفة على سعيها إلى المساهمة في هيكلة القطاع المسرحي وتنظيمه، حتى يصبح فضاء للصناعة المسرحية بكل مقوماتها الفكرية والإبداعية وأيضا الاقتصادية، لا يُعتبر المسرح تنشيطا بالمعنى القدحي للكلمة، بل هو آلة إنتاجية مساهمة بقوة الأشياء في التنمية، منها ما هو مرتبط بالجانب الإنساني، ومنها ما هو مرتبط بالجوانب المادية مع الترافع عن ضرورة إجراء تقويم علمي عقلاني للدعم المسرحي.
وعندما جرى الإعلان عن هذه التظاهرة، وتحديد تاريخ الرابع من يناير 2022 كآخر أجل لإيداع ملفات الترشيح، ثم تمديد الآجال إلى السابع عشر من الشهر نفسه، استبشر المسرحيون خيرا، بعدما عاشوا زهاء سنتين من الجمود بفعل تداعيات الجائحة وتوسموا في هذه المبادرة بداية الإصلاح، ومنهم من أدرج هذه المبادرة ضمن حقه المشروع في الظهور على التلفزيون من خلال الأعمال الجادة المستوفية لكل الشروط، ومنهم من اعتبرها لبنة أساسية لصناعة ثقافية حقيقية، من خلال دعم عصبها المحوري الذي هو المسرح، عبر نقله من فضائه الطبيعي المتمثل في الخشبات إلى التلفزيون كحضن جديد.
ولفت الكاتب المسرحي عبدالحق قيس إلى أنه إذا استمر الوضع على هذه الحالة فلن يتطور المسرح ولن يكون مورد عيش لمن اختار هذا الفن الراقي، والصواب هو أن يكون كذلك لهم ولأسرهم، ومن ثم فالاستثمار في أبي الفنون يبقى هو الحل الوحيد والكفيل بإعطاء انطلاقة حقيقية للمسرح مع الحرص على شراء العروض من طرف الوزارة الوصية بالإضافة إلى منح الدعم للفرق التي لا يمكنها إنتاج أعمالها المسرحية، هذا مع ضرورة بث الإشهار التلفزيوني للقطات المسرحية التي من المزمع أن تتم برمجتها في المسارح المتواجدة في مختلف مناطق المملكة وأن تكون متابعتها إلزاما بمقابل مادي وليست مجانية كما هو الحال الآن.
وفي هذا الإطار، وتزامنا مع دعوة الفيديرالية المغربية الفرق المسرحية المحترفة إلى تحديد أجندة الموسم المسرحي، باعتبارها تعاقدا أساسيا بين الفرق المسرحية والمشتغلين في مشاريعها الفنية والجهات الداعمة والجمهور، أكد رئيس الفيديرالية حسن هموش (وهو أيضا مخرج مسرحي) أنه رغم الإشكالات الكبرى التي يعيشها القطاع المسرحي، والمرتبطة أساسا بالقوانين التنظيمية سواء تلك المتعلقة بقانون الفنان أو هيكلة الفرق المسرحية “المحترفة” أو مؤسسات استقبال العرض المسرحي (المسارح والقاعات) أو الدعم وإشكالاته المرتبطة بالأهداف والآليات الإجرائية، إلا أن المغرب يتوفر الآن على كفاءات مؤسساتية (فرق مسرحية) ومبدعين لهم القدرة، ليس فقط على حمل المشعل، بل على جعل حضور المسرح المغربي قويا إقليميا ودوليا.