مدينة شفشاون المغربية الجوهرة الزرقاء وقبلة النازحين من الأندلس

بنعبو

من بعيد، تبدو لك مدينة شفشاون الواقعة شمال المغرب، مثل حسناء ترتدي فستانا أزرقَ مطرزا بالبياض وتتسلق الجبل، تغازلها الطبيعة وترنو إلى ابتسامتها الجذابة.

هذه المدينة الصغيرة مساحة والكبيرة صيتا، الواقعة عند سفح جبل القلعة، لا تمل من الأعالي، إذ تحيط بها قمم جبلية أخرى والحديث هنا عن تيسملال، وبوحاجة، وماكو.

نجمة «إنستغرام»

لم يمنع خجل شفشاون الطبيعي الزوار من أن يضعوها على رأس قائمة أكثر المدن تداولا على منصة تبادل الصور والفيديوهات «إنستغرام» وذلك بـ 620 ألف مشاركة لصورها الساحرة، وتلك الزرقة الصافية والمتعددة الطبقات تحكي قصة اللقب الذي تشتهر به وهو «المدينة الزقاء»؛ فلا عجب أن صنفتها «اليونسكو» منذ عدة سنوات ضمن التراث الثقافي غير المادي، بالنظر إلى جمالها الأخاذ.
كبريات الصحف العالمية تداولت اسمها فيما يشبه الدهشة الجمالية، فهذه «ديلي ميل» البريطانية، تصنفها أكثر المدن جذبا لمستخدمي «إنستغرام» وفي ذلك أكدت أن الجمال الطبيعي للمدينة تمكن من استقطاب عدد كبير من الذين تشاركوا صورها على المنصة المذكورة، وهي عبارة عن صور توثق ذكرياتهم فيها.
وبذلك تفيد «ديلي ميل» بأن شفشاون أكثر المدن العالمية شهرة على وجه الأرض في موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام».
هي نجمة المدن المغربية التي استطاعت أن تحجز مكانها ضمن أكثر مدن العالم جمالا وجذبا للسياح، وليست قائمة «إنستغرام» وحدها التي توجت شفشاون، فالمدينة سبق لها فازت بكأس أفضل مدينة أفريقية وسيطة سنة 2018 وبعد عام واحد أي 2019 احتلت المرتبة التاسعة لأجمل الشوارع والأزقة في العالم، ومن إبهارها أيضا، أنها اختيرت كخلفية لتصوير مجموعة لويس فويتون للربيع والصيف ذات سنة.
وتواصل هذه المدينة الإبهار، عندما تتوقف عند عتباتها مجلة «فوربيس» الأمريكية لتختار صور منازلها الزرقاء ضمن قائمة أفضل الصور التي التقطها السياح، وتم نشرها على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام».
«فوربيس» تجاور «ديلي ميل» في ذلك، و«إنستغرام» هي المنصة التي أعلنت للعالم عن جوهرة زرقاء تقع في المغرب ويرتادها عشاق الجمال الطبيعي والسياحة الهادئة والأعالي أيضا.
الصور المذكورة التي جعلت شفشاون تتربع على عرش منصة «إنستغرام» هي لمنازل ذات اللون الأزرق تحيط بها مزهريات تحتضن نباتات خضراء، هو الحلم بكل تأكيد بالنسبة للزائر العابر لقارات الاسترخاء.

التاريخ يحكي

قبل الحديث عن تاريخ المدينة، نتوقف عند التسمية التي تتقاسمها شفشاون والشاون في التعبير الدارج المغربي، بينما اللقب المميز هو المدينة الزرقاء أو الجوهرة الزرقاء، وهي كذلك ترصع جبين القمم المحيطة بها.
المدينة وفق مراجع تاريخية تأسست سنة 1471 على يد مولاي علي بن راشد، وكانت مقرا لإيواء الأندلسيين بعد أن تعرضوا للطرد من طرف الإسبان، بذلك يتضح كل شيء حول هوية المدينة الزرقاء والهادئة والحالمة.
هوية المدينة لا تقف عند عتبة اللون الأزرق متعدد التموجات بين الغامق والفاتح والمتوسط، بل حتى في أسلوب العيش والحياة الثقافية التي كانت نتاجا لتلاقح قرون من التقاليد والعادات، ولن ننسى أبدا الجمال الطبيعي الذي حباها به الله، فكانت مرتع البهاء خلقة وخلقا.
المدينة الساحرة التي يبلغ عدد سكانها نحو 57.329 نسمة وفقا لإحصاء السكان والسكنى لسنة 2014 يعود أصل التسمية إلى اللغة الامازيغية، وفي ذلك ذهبت التفسيرات إلى أنه مركّب، من «إشاون» والتي تعني القرون، و«شف» التي تعني انظر، لتصبح شفإشاون، وكما هو متداول اليوم شفشاون، والاسم إحالة على الموقع الجبلي وتلك القمم المحيطة بها، ناهيك عن جبل القلعة الواقعة عند سفوحه.
شفشاون ليست مجرد لوحة جميلة ومدينة للسياحة فقط، بل تختزن رصيدا مهما من تاريخ مقاومة المستعمر، والحديث هنا عن البرتغاليين، عندما هاجموا مدنًا ساحلية مغربية مثل طنجة والقصر الصغير وأصيلة، سنة 876 هجرية الموافق لـ 1471 ميلادية، فكان تشييد شفشاون بمثابة تشييد لحصن في سفوح القمم الجبلية المذكورة، لتشكل رباطا للجهاد وصدّ التوسع البرتغالي نحو الداخل.
هي بذلك مدينة وحصن، تاريخ تليد وحاضرة بهية عرفت خلال القرون الثلاثة الماضية، حركة مدنية توسعت خلالها هذه الحاضرة الجبلية، وشهدت هجرات أسر قادمة من الأندلس استقرت بها، لتبدأ حكاية الاستقرار والتوسع العمراني وبناء المساجد والمنازل ناهيك عن الأبواب التي تفيد بوجود حصن منيع لصد أي هجوم استعماري.
لم تنس شفشاون طابعها الأندلسي نسبة إلى الأسر القاطنة بها، مدينتها العتيقة عبارة عن لوحة من فسيفساء الهندسة المعمارية الممزوجة بالجمال الفني، في تناسق تام بين مكونات هذا الإنجاز العمراني العتيق.

من الرقمي إلى سحر الواقع

كيف هيمن سحر شفشاون على منصات التواصل الاجتماعي وخاصة إنستغرام؟ الجواب يجد صداه في الواقع، ويكفي أن تكون زائرا إليها عبر سيارتك الخاصة أو في وسائل النقل العمومي المتوفرة، أو من خلال وفد سياحي يدشن مرحلة جديدة من متعة التأمل.
الصعود أو النزول هو سمة المدينة، لأنها جبلية فهي تمنح زائرها متعة ممارسة الرياضة من خلال تسلق دروبها وشوارعها، والدرجات التي تفضي إلى أبواب المنازل المنتشرة على طول الطريق الممتد إلى الأعلى.
قليلة هي الساحات الواطئة التي لا صعود فيها، ومنها ساحة «وطاء الحمام» والبقية هي تراص جميل لبنايات عتيقة اصطفت على ممر أزرق جميل تحيطه المزهريات والنباتات الخضراء.
شفشاون ليست المدينة العتيقة فقط، بل هي أيضا حديثة وبها مرافق أساسية توفر للسكان احتياجاتهم الإدارية والتعليمية والصحية وغيرها من لوازم الحياة الاجتماعية.
لكن سحر شفشاون يبقى ملتصقا بالمدينة العتيقة وأحيائها البديعة، حيث نجد حي السويقة، الذي يعتبر الأقدم في المدينة، وبه بيوت عتيقة لونها بين الزرق والأبيض، أما اسم «السويقة» فجاء مصدره من وجود «قيسارية» أي مجمع تجاري شيد أواخر القرن 15 ميلادي.
وليس بالغريب ولا العجيب أن تضم المدينة العتيقة لشفشاون حيا باسم حي الأندلس، الذي بني في الأصل للنازحين الأوائل من المهاجرين الأندلسيين، وهو في معماره شبيه بحي السويقة، فقط تجد الاختلاف في المنازل التي بنيت على شكل طوابق.
باقي الأحياء في المدينة العتيقة هي حي العنصر، وبه برج للمراقبة، أما حي الصبانين، فيقع على الطريق الذي يؤدي إلى منبع رأس المال، وبه عدد من الطواحين التقليدية التي استعملت لطحن الزيتون.
من الأحياء إلى منبع رأس الماء، الذي يعتبر المنبع الوحيد الذي يزود شفشاون بالماء، أما من معالم المدينة الحديثة فنجد شارع المغرب العربي، وهو الشارع الرئيسي الذي يشكل ممرا للحافلات ومنه رأسا إلى السوق الأسبوعي.
لا يمكن مطلقا الفصل بين أماكن خاصة للسياحة وأخرى لغير هذا الغرض، لأن شفشاون برمتها عبارة عن صعود مستمر إلى الجمال، لكن هناك معالم تصنف في خانة السياحية، ومنها القصبة التي تتميز ببنائها الأندلسي، وكانت مقرا عسكريا يحيطه سور يشتمل على عشرة أبراج، وفي الداخل كل الجمال وهو عبارة عن حديقة كبيرة ومتحف إثنوغرافي آسر، يتيح اكتشاف مشغولات المهارات اليدوية، خاصة الملابس والبطانيات الصوفية. كما أن ورش النسيج المنتشرة في جميع أنحاء مدينة شفشاون تصنع الجلابيب المشهورة في المغرب، وهناك أيضا إبداعات راقية مطرزة وسجادات ومجوهرات.
أما ساحة وطاء الحمام، وهي تحمل هذا الاسم الشاعري، فهي ساحة عمومية مساحتها تبلغ 3000 متر، وتعتبر القلب النابض التاريخي والسياحي، لأن كل الطرق تؤدي إليها.
هذه الساحة التي لم يكن مقدرا لها أن تبقى سوقا أسبوعيا كما صممت من قبل، تحولت بفعل جذبها وسحر موقعها إلى ساحة سياحية بامتياز، وهناك يجد الزائر الدكاكين العتيقة تبيع كل ما يشتهيه، وبها نافورة تضفي عليها لمسة فنية بديعة.
إلى جانب الحضور الروحي من خلال المسجد الأعظم الذي يتربع في ساحة وطاء الحمام، هناك أيضا الحضور الثقافي والفني، فهي المحتضنة البهية لكل المهرجانات، كما تكون مسرحا لقراءات شعرية خلال مهرجان الشعر المغربي الذي تنظمه جمعية المعتمد بن عباد.

صنعة الخالق وإبداع الخلق

إلى جانب ما أبدعته صناعة الخلق من ساكنة المدينة عبر قرون مضت، هناك الطبيعة التي أبدعها الخالق وأحسن صنعتها، كل المحاسن اجتمعت لشفشاون، والجبال معمار رباني بسطته الأرض قماشا ليتمكن الشفشاونيون من رسم مدينتهم.
الحديث عن جمال صنعة الخالق، يجرنا مباشرة إلى الحديث عن شلالات أقشور، حتى قيل إنها سبب لقب المدينة الزرقاء.
السياح يضعون شلالات أقشور على رأس أماكن الزيارة، لأن المتداول من خلال تدوينات وكتابات عن المدينة أن تلك الشلالات تمنح زائرها لحظة استرخاء لا مثيل لها، يستجم ويحس بالسكينة والتملي بمنتهى الجمال الطبيعي بين ماء دافق ينزل من علياء وجبال تنتصب مثل شاهد على لحظة لا تنسى.
هناك في تلك الشلالات المبهرة، حيث توجد المحمية الطبيعية تلا سمطان، وبها أجمل وأفضل المناظر الطبيعية التي يمكن للإنسان أن يعيش في كنفها خلال زيارته.
الطبيعة في شفشاون لا تتوقف عن الإبهار، فتضاريس المدينة وعرة جبلية، الصعود دائم والنزول بدوره، انحدارات متعددة وأودية متعددة سمتها انها منخفضة، وكل ذلك يؤدي مباشرة إلى متعة الزيارة لمدينة تمنح للسائح ذكريات راسخة.
بالإضافة إلى البهارات وزيت الزيتون والفواكه والخضروات، تعتبر الأراضي الزراعية في مدينة شفشاون ذات جاذبية خاصة لأصحاب الذوق والمولعين بفنون الطبخ، لأن هناك العديد من المنتجات النضرة والصحية بشكل خاص؛ أشهرها الجبنة التقليدية الطازجة واللذيذة التي تُقدّم مع الخبز المطهي محليا، وللوصول إليه يكفي فقط استعمال حاسة الشم، إذ تسترشد إلى رائحته ومذاقه الخاصين.

الصين تستنسخ شفشاون

هكذا تداول عدد من نشطاء التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو توثق لزيارة قام بها صينيون إلى مكان شبيه بشفشاون، حيث كل المنازل زرقاء والأزقة نفسها، والعقبات صاعدة إلى فوق، والمزهريات كل التفاصيل، لكنها تبدو مصطنعة بكل تأكيد وتخلو من روح المكان المبثوثة عبر تلك الفيديوهات.
وحسب تفاصيل هذا الاستنساخ الصيني لمدينة شفشاون الذي يعبر عن الاعجاب أكثر من أي شيء آخر، نجد أن الصين دشنت مجمعا سياحيا جديدا، في مدينة تشيندو، وجعلته مطابقا في معماره وشكله وأوصافه وهندسته وحتى ألوانه لمدينة شفشاون.
الحقيقة أن ما تداوله رواد مواقع التواصل الاجتماعي يظهر بشكل جلي التطور التقني الذي وصلته الصين، وليس استنساخ مدينة برمتها وبكامل تفاصيلها بالأمر الهين مطلقا، وهي في ذلك تريد لمواطنيها ان يزوروا شفشاون ولو من خلال نسخة مصغرة في تشيندو.
المهندسون الصينيون تمكنوا من تشييد هذا المجمع السياحي الكبير الذي كانت شفشاون مركزه وقلبه النابض، وهي تحيل على الإقبال الذي تعرفه المدينة من طرف السياح القادمين من الصين.
ومن يدري، فقد تصير شفشاون نموذجا سياحيا يتملك معظم عشاق الاستنساخ الجميل، فنحن قبل كل شيء في عصر رقمي والمستحيل صار ممكنا والزيارة قد تتجاوز الواقع إلى الافتراضي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: