عقبات سياسية محددة ومتعددة تسببت في وصول العلاقات المغربية – الفرنسية إلى الموقف السيء الذي هي عليه اليوم. فالجمود البيروقراطي والخطاب التحريضي والمواقف السياسية المثيرة للجدل ضد المغرب أدت إلى إضعاف فاعلية أيّ صوت متعقل يريد الخروج بمواقف متطورة ونظرة جديدة في التعامل مع المغرب، وبالتالي تأخر تنفيذ سياسات مبتكرة وواقعية للتعاطي مع قضايا تمسّ المغرب بعيدا عن العقلية الاستعمارية الاستعلائية.
الأزمة بين الرباط وباريس لم تعد صامتة ولم تعد خافية على أحد؛ الحكومة الفرنسية التي لازالت تضغط لتبقى لها الكلمة العليا في الامتيازات المتعددة داخل المغرب استخدمت ورقة تضييق الخناق على المغاربة طالبي التأشيرات لممارسة هوايتها في الابتزاز. وبينما العالم يتغير، تعارض باريس انفتاح المغرب على شركاء جدد وترفض أن يخرج من دائرة نفوذها السياسي والاقتصادي.
لم يستوعب الفرنسيون تعليق الرباط التصريح القنصلي الذي يسمح لباريس بنقل الإمام حسن إيكوسين إلى المغرب، بعد قرار مجلس الدولة الفرنسي (أعلى سلطة قضائية في الدولة) الذي رأى أن ترحيل الداعية إلى المغرب لن يكون تدخلا غير مناسب مع حقه في أن تكون له حياته الخاصة والأسرية.
ومعروف أن الداعية إيكوسين الذي تنعته الداخلية بالمتطرف لاعتبارات تخص سياستها الداخلية، وتتهمه بالتحريض على الكراهية والتمييز والعنف، مولود في فرنسا من أسرة عاشت لعقود طويلة على التراب الفرنسي، أي أن الرجل ابن بيئته الفرنسية – رغم رفض طلب تجنيسه – تعلّم هناك وترعرع في شوارع مدنها وتشرّب ثقافتها وخاضع لقوانينها التي لا علاقة لها بالمغرب، رغم أنه البلد الأصلي إلا أنه لم يساهم في تربيته وتعليمه وتشبعه بالفكر المتطرف.
ملف الصحراء نقطة مهمة في مسلسل الابتزاز للحصول على امتيازات اقتصادية في المغرب
يبدو أن قضية الداعية إيكوسين أريد لها أن تكون ورقة ضغط إضافية على المغرب، فهذه ليست القضية الأساسية الوحيدة التي تعكّر العلاقة بين البلدين. وتصف باريس المغرب بأنه غير متعاون بعد أن رفض قبول استعادة المهاجرين المغاربة والمبعدين المولودين داخل فرنسا، وأيضا هناك آخرون ليسوا من أصول مغربية، ومع ذلك تريد فرنسا أن تجعل من المغرب مكانا لإبعادهم.
وبشكل عام، العلاقات الفرنسية – الأفريقية ليست في أفضل مراحلها، بل تمر بفترة من عدم الوضوح، والمغرب جزء من هذه الجغرافيا، حيث يرى الشباب الأفارقة أن فرنسا غير قادرة على تطوير بلدانهم ومجتمعاتهم، وتعمل على حماية مصالحها الخاصة. وكان استطلاع مؤلف من 112 صفحة، نشر في أفريقيا قبل عامين، بيّن أن الولايات المتحدة وبريطانيا والصين والاتحاد الأوروبي تحظى بتقدير كبير من الشباب في البلدان الأفريقية، في حين جاءت فرنسا في ذيل القائمة، حيث بيّن الاستطلاع أنها تحظى بسمعة سيئة للغاية بين شباب البلدان الأفريقية الناطقة باللغة الفرنسية.
الاستطلاع الذي أبرز تراجع مكانة باريس داخل أفريقيا، زاد من الحدة التي تتعامل فيها الحكومة الفرنسية مع المغرب، فهي لا تريد أن تفقد امتيازاتها التي تراكمت خلال عقود، وترفض أن تحظى دول أخرى مثل الولايات المتحدة والصين واليابان بتلك الامتيازات.
ويظهر جليا أن باريس لم تستوعب علاقات الرباط مع إسرائيل، ولم ترتح لتصفية الأجواء بين الرباط وبرلين واعتراف مدريد بمغربية الصحراء، فاستعملت كل الحيل والوسائل للتشويش على الرباط، حيث وصلت إلى حد اتهمت فيه وسائل إعلام فرنسية قريبة من صناع القرار في باريس، المغرب باستعمال برنامج بيغاسوس للتجسس على الرئيس إيمانويل ماكرون ورجال دولة فرنسيين.
الموقف المتقدم لواشنطن من ملف الصحراء والخطوات الإسبانية في ذات الملف، لم ترق لصناع القرار في باريس، لأنه ملف ابتزاز بامتياز. وهي تريد الاستمرار في نفس النهج الذي دأبت عليه دون أن تطور موقفها من قضية الصحراء المغربية، إلى أن استفاقت على وقع الضربة التي أحدثها الموقف الأميركي المتمثل باعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بمغربية الصحراء، والتزام الإدارة الأميركية الحالية بالقرار، وهو ما جعلها تستشيط غضبا وتقطع الطريق على المغاربة الذين يريدون زيارتها بتخفيض عدد التأشيرات الممنوحة لهم.
ملف الصحراء نقطة مهمة في مسلسل الابتزاز للحصول على امتيازات اقتصادية في المغرب. ويبدو أن لدى فرنسا مؤشرات على أن مشروع القطار فائق السرعة الذي سيربط بين مراكش وأغادير، لن يكون من نصيبها، بعد أن أبدت الصين حماسا كبيرا لإنجازه بمواصفات عالية وميزانية معقولة، مستفيدة من خبراتها الرائدة في هذا المجال. وتحرص باريس التي تعلم مدى أهمية المشروع اقتصاديا وسياسيا، على إنجازه، خاصة بعد أن أنجزت مشروع القطار فائق السرعة الرابط بين الدار البيضاء وطنجة.
ماذا يمكن أن نتوقع من ولاية ماكرون الثانية؟ لا شيء يذكر
لا تريد النخبة، التي تصنع القرارات وتشرف على هندسة السياسات الخارجية الفرنسية، أن تتفاعل إيجابيا مع ما جاء في خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس، في العشرين من أغسطس الماضي، وجعل من قضية الصحراء أساسا واقعيا لإقامة الشراكات وتكوين الصداقات. فرنسا تريد لنفسها أن تكون فوق هذه الثوابت الدبلوماسية المغربية، ولا تريد أن تخرج من منطقة راحتها في التعاطي مع هذا الملف بشكل واقعي وموضوعي والسير على نهج الدول الأخرى.
وكأن هذا لا يكفي، ليلقي الرئيس الفرنسي ماكرون تصريحا من مقهى أثناء زيارته إلى الجزائر، زاد من توتير العلاقات بين الرباط وباريس، قال فيه إنه سيزور المغرب في أكتوبر المقبل. التصريح يعبّر عمّا وصلت إليه سياسة ماكرون من انحدار، بعدما تخطت كل الأعراف والبروتوكولات الناظمة للزيارات بين رؤساء الدول. وبهذا التصرف يعبّر عن الاستهانة بتلك العلاقات، وبأنه لن يخسر أيّ شيء إن هو تخطى كل واجبات الاحترام لبلد له تقاليده وسيادته ومواقفه.
ومن الأمور التي ساهمت في توتير العلاقات بين البلدين الاتجاه في المغرب للتخلي عن الفرنسية لصالح الإنجليزية، لاعتبارات علمية واقتصادية ودبلوماسية وتقنية، فالفرنسية لم تعد تلك اللغة التي تستقطب اهتمام الشباب المغربي الذي يبحث عن فرص عمل وترقّ وظيفي وأكاديمي تضمنه الإنجليزية أكثر بكثير من الفرنسية، وهذا ما جعل باريس تشنّ حربا على الداعين لتنحية الفرنسية من المرتبة الأولى في التدريس، فهي ورقة الهيمنة الثقافية والاقتصادية التي تخشى باريس فقدانها.
ويعتبر الملف الليبي ودول الساحل والصحراء من القضايا التي تهتم بها الدبلوماسية المغربية بشكل قوي لارتباطها بالأمن القومي. وتحركات المغرب لتطويق الأزمة الليبية والعمل على تخفيف الأزمة داخل مالي، تثير احتجاجات باريس التي لا تريد أن تكون دون الرجوع إليها، فالعلاقة بين فرنسا ومالي مقطوعة والنصر على الإرهاب لا يلوح في الأفق، بعد أن فشلت السياسة الأمنية الفرنسية في منطقة الساحل في تطوير طرق فعالة لنزع فتيل التطرف أو التكيف مع التحولات الاجتماعية والسياسية في المنطقة.
فماذا يمكن أن نتوقع من ولاية ماكرون الثانية؟ لا شيء يذكر. من الواضح أن المشهد الإستراتيجي ومعظم الاتجاهات الدولية الحالية لا تتوافق مع التناقضات الناشئة عن أدوات وممارسات السياسة الفرنسية الموروثة من الماضي الاستعماري ومن الدبلوماسية التقليدية، خصوصا مع توسيع شراكة المغرب في الرؤية والمنهج والأهداف مع عدد من الدول المهتمة بتنمية أفريقيا.