لم تعد أخبار الفساد تزعج الرأي العام الشعبي والرسمي في الجزائر، فقد بات سجن هذا المسؤول أو ذاك لا يثير الاهتمام، فالفساد تحوّر ذهنيا ونفسيا كما تتحوّر الأمراض والأوبئة، وكما يتعوّد جسم الإنسان على الفايروسات ويتعايش معها، صار الجزائريون متعايشين مع الفساد، فقد صارت العبرة في كيفية التعامل معه وليس في متابعة أخباره.
منذ فضيحة شحنة الكوكايين التي حجزت العام 2018 وكانت بمثابة أحجار الدومينو عندما تتساقط أحجاره، سقط العشرات من المسؤولين الكبار في الدولة بتهمة الفساد. لكن الظاهرة مستمرّة وكل يوم تتواتر أخبارها، الأمر الذي أكد أن عجز السلطة عن لجم توسعه، ناجم بالأساس عن مغزى العملية برمتها، وإلى الآن لا زالت الآلة تلاحق الفاسدين لكنها لم تعالج ظاهرة الفساد.
ولعل أول معالم الظاهرة انتشاء السلطة بالقضاء على الحراك الشعبي، لأن مطلبه الرئيس كان الرحيل الجماعي للسلطة، والقصد في ذلك المنظومة السياسية التي انتهت إلى كل هذا الزخم من الفساد، وتلك هي العقيدة التي أخطأت السلطة لما فرطت فيها، لأنها الوحيدة التي كانت قادرة على مساعدتها في اجتثاث الظاهرة.
أحيانا يصل اليأس في النفوس إلى درجة التسليم بالتعايش مع الفساد، لأن محاربته من سابع المستحيلات ولأن البلاد برمتها تغرق في ممارساته، ولا أمل في لجمه.
ما يدعم خيار الحرب على الفساد هو تجفيف المستنقع وتنقية المناخ، وليس الزج بالأفراد في السجون، وهو المسحة السوسيولوجية على النخبة المسجونة حاليا
الباحثون في الظاهرة يجزمون بأن الفساد في الجزائر هو مرض متحوّر مع كل الأمصال، وهو ظاهرة اجتماعية تتخرج منها أجيال ونخب من الفساد.
وتذكر إحدى الروايات أن الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة قال لمقرّبين منه في حديث جانبي “اتهموني بالفساد وسأجعلهم كلّهم فاسدين”، في موقف انتقامي ممّن أخرجوه من النافذة عقب وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين واختياره المنفى لعقود في الخارج.
وهو ما يعطي الانطباع بأن الفساد في الجزائر هو إرادة سياسية، وإلا كيف يفسّر وقوف أعداد كبيرة من المسؤولين أمام القضاء، لدرجة أن صار المسؤول النزيه نشازا والفاسد هو القاعدة، وإن يربط البعض تفشي الظاهرة بكثرة الريع، فيكون أكثر عزلة كلّما كان الريع قليلا، ولذلك تكون ملفاته وأخباره نادرة، وأكثر شيوعا وممارسة كلّما تدفق الريع وقلّ الحساب.
يقبع الآن خلف القضبان رؤساء أحزاب سياسية ورؤساء حكومات ووزراء ورجال أعمال وجنرالات وضباط كبار بتهم الفساد، وبنظرة بسيطة يمكن القول إن جيلا أو نخبة من السلطة ضالعة في الفساد. ولأن حملة الحرب لا زالت مفتوحة على الفاسدين، فإن الفساد لا زال مستمرا وسيبقى كذلك، لأن المناخ الذي نبت فيه هؤلاء لا زال هو نفسه وسينبت فيه فاسدون آخرون.
وتبقى كلمة مدير الأمن السابق المسجون الجنرال عبدالغني هامل ترن في آذان الجزائريين عندما قال “من يريد محاربة الفساد عليه أن تكون أياديه بيضاء”، في تلميح حينها لقائد الجيش الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، ولذلك يجدر طرح التساؤل التالي: من يحارب من؟
في تسعينات القرن الماضي شن رئيس الحكومة آنذاك أحمد أويحيى ما عرف بـ”حملة الأيادي البيضاء” فسجن العشرات من الكوادر والمسؤولين المتوسطين بدعوى محاربة الفساد، وتمضي السنوات ويلقى الرجل نفس المصير ويسجن بتهمة الفساد، ويعترف بعظمة لسانه أنه “تلقى 30 قطعة ذهبية من دولة عربية لقاء تسهيلات قدّمها لها، ولأن البنك لم يشترها منه، باعها في السوق السوداء بنحو نصف مليون دولار”.
والواقعة ليست الوحيدة ولا الأولى ولن تكون الأخيرة، ولعل مثلها ما أفقد أخبار الفساد والمفسدين قيمتها وبريقها لدى الجزائريين، فمن يحارب من؟ من هو الفاسد ومن هو النزيه في كل هذا المعترك، ومن يضفي على العملية مصداقيتها والقضاء والإعلام مكبلان؟
ونفس المسؤول (أويحيى)، تحسر أمام القاضي على ضياع مقدرات البلاد بالقول “كم أخذت شركات البناء من أموال الجزائر؟”، في تلميح إلى الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون، لأنه كان هو وزير السكن.
منذ فضيحة شحنة الكوكايين التي حجزت العام 2018 وكانت بمثابة أحجار الدومينو عندما تتساقط أحجاره، سقط العشرات من المسؤولين الكبار في الدولة بتهمة الفساد، لكن ما هي حدود الفساد وما هي خطوط التماس بينه وبين تصفية الحسابات السياسية، فكل ما طفا على السطح إلى حد الآن لم يكن ليحدث لولا الرجة التي أحدثها الحراك الشعبي في صفوف السلطة. وهل كان بإمكان أويحيى وغيره أن يجهروا بذلك لولا أن الدائرة دارت عليهم، وهل كان بإمكان السلطة الزج برموزها في السجون لولا القاعدة السائدة “لا بأس من التضحية بالأفراد من أجل استمرار النظام”.
إن ما يدعم خيار الحرب على الفساد هو تجفيف المستنقع وتنقية المناخ، وليس الزج بالأفراد في السجون، وهو المسحة السوسيولوجية على النخبة المسجونة حاليا التي تظهر أنها تدرجت في عالم المال والمسؤولية والسلطة.
أن يمر مسؤول حزبي ورئيس حكومة وجنرال ورجال أعمال عبر مختلف المراحل والدرجات ويكتشف أخيرا بأنه فاسد، هو إدانة للمنظومة التي ترعرع فيها من شبابه الى شيبته وانتهى به المطاف إلى رجل فساد.
والثابت إلى حد الآن أن سجن هذا المسؤول أو ذاك لن يجدي في المسألة شيئا، ما دامت مؤسسات الرقابة مغيبة والمجتمع غير ممثل فيها، وما دام البعض بعيدا عن المساءلة في حين أن البعض الآخر معرض لكل أشكال المتابعة، ويبقى تحرير طاقات المجتمع سياسيا وثقافيا وإعلاميا هو مفتاح محاربة الفساد. أما سجن هذا المسؤول أو ذاك، فهو تحصيل حاصل لا غير.