كلما التقيت صديقا أو جارا إلا واشتكى لي من ظاهرة واحدة قائلا: «عندما أستيقظ صباحا أجد نفسي منهكا وكأنني كنت أبذل مجهودا جبارا. إنني أفيق مُجهد القوى كئيب النفس مهدود الكتفين»، وهذه العبارة صارت حديث الخاص والعام بمدينة القنيطرة بشكل خاص.
لقد حدثني الصديقان العزيزان وهما أطباء من عاصمة الغرب قائلين لي: «هذا شيء طبيعي جدا بالنسبة لمدينة تضم 800 ألف نسمة الذين يعيشون وسط تلوث حطم كل الأرقام القياسية الدولية، فمن أهم العناصر التي تقضي على صحة الإنسان هناك كثرة البناء واستعمار الإسمنت المسلح لكل الوعاءات العقارية وانعدام النباتات الخضراء التي يمكنها أن تضخ الأوكسجين في أجسام السكان».
وتابع الطبيب كلامه متأسفا:«لقد صارت القنيطرة عاصمة للبناء وأوراش البناء بدون حدود للأسف الشديد، وسبب هذه الظاهرة هو انتشار فكرة البيت الثاني مما سيجهز في المستقبل القريب حتى على المناطق الفلاحية في المغرب، فأنت تلاحظ بأنه حتى المناطق التي كانت تستغل في الزراعة في الماضي القريب بضواحي القنيطرة وكانت عبارة عن فضاءات تتنفس منها المدينة الصعداء، حتى هذه المناطق هجمت عليها «مجموعات عقارية لا تشبع من الربح السريع»
وقيل ما قيل وكتب ما كتب ولكن الحال سيبقى على ما هو عليه من انتشار للبناء بفكرة «البيت الثاني» وانتشار للسكن على حساب الماء والخضرة اللتين تحدث عنهما ذات يوم العندليب الأسمر في وصفه للمغرب. فالخضرة ستتحول باستمرار إلى لون رمادي داكن لتقضي على النبات وصحة الإنسان”.
وواصل البروفسوران كلامهما عن هذا الموضوع الذي يهم صحة سكان الحواضر الكبرى قائلين:« لقد فقد الإنسان الحضري، الذي يقيم في مدينة كالقنيطرة كل مقومات الصحة الجيدة، وكطبيبين نفحص يوميا عددا من المصابين بأمراض القلب والشرايين فإننا نلاحظ تدهورا صحيا متواصلا لدى سكان القنيطرة نتيجة التلوث وما يثيره في نفوسهم من مشاعر التوتر والغضب والحسرة، وهي مشاعر سلبية على قلوب وشرايين الأصحاء قبل المرضى، فكل القنيطريين يعانون اليوم من الافتقار لفضاءات الارتياح والاستجمام ويفتقدون مشاهد الاخضرار من حولهم، فمثلا في لافيلوت ، وحي أولاد وجيه لا توجد حديقة واحدة رغم وجود آلاف العمارات ذات الطوابق الأربع، وفي وسط المدينة، لا نرى سوى العمارات والعمارات، ثم العمارات، وحتى عمارات القنيطرة لو كان لها الحق في زيارة عيادة طبيب لكانت قد اشتكت له من التلوث الذي يظهر جليا عليها، فكلما قام مالك عمارة بطلائها إلا وتحولت إلى واجهة داكنة اللون وضبابية الشكل بعد بضعة أسابيع فقط على طلائها بسبب التلوث وكثرة البنيان وفقدان الخضرة والنباتات».
لقد أجهز البنيان على كل شيء جميل في حواضر المغرب الكبرى، أجهز العقار على كل منافذ الصحة العمومية للكبار وللأطفال بالخصوص.
وأتذكر هنا ملاحظة استغراب واستياء باح لي بها طبيب عربي متزوج من مغربية ويعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حل بالمغرب مع زوجته التي غابت عن القنيطرة لمدة عشر سنوات، فقال لي الاثنان بأسف كبير: “إن الملاحظة الأولى التي صدمتنا في القنيطرة هي كثرة البنيان، فأينما وليت وجهتك إلا ووجدت تلك الآلة الضخمة معلقة في السماء لمواصلة ورش منعش عقاري في تشييد عمارة جديدة، وقالت لي الزوجة التي هي ابنة حي شعبي: «لقد تألمت كثيرا حيث وجدت حتى الحي الذي ترعرعت فيه والذي يضم بيوتا عائلية عتيقة ودافئة قد بدأ عشاق الربح السريع من الإسمنت المسلح يشترون تلك البيوت ويحولونها إلى عمارات سكنية وكأن القنيطرة ستستقبل أقواما يعدّون بالملايين الإضافية من كوكب آخر لأن النمو الديموغرافي له حدود ومعايير».
لقد قضى البناء الكثير على كل معايير الصحة والسلامة وجودة التنفس وعندما أمرّ بحي شعبي أتأسف على الأطفال الذين يلعبون في التراب والمراهقين الذين يمارسون لعبة كرة القدم وسط الطرقات العمومية بين السيارات والشاحنات التي تضطر لتخفيف سرعتها لتفسح المجال للعب كرة القدم من طرف شباب يفتقرون لكل فضاءات المتعة والترويح عن النفس بعد أن «استولى» العقار على كل الوعاءات العقارية العمومية وحولها إلى مليارات الدراهم في جيوب فئة معينة.