الأمان الاجتماعي في مدينة القنيطرة نعمة لا يعرف قيمتها إلا من يفتقدها

بوشعيب البازي

لو وضعنا جانباً أعمال العنف لأسباب سياسية أو حربية، التي يمكنها أن تندلع فجأة في أية مدينة في العالم لتحول الحياة فيها فجأة إلى جحيم، ولو تطلعنا إلى جانب الأمن الاجتماعي، ونعني به غياب المخاطر التي يمكنها أن تتهدد الحياة اليومية لسكان المدن على أيدي جيرانهم في المدينة الواحدة، للاحظنا أن مدينة القنيطرة  كانت ولا تزال عموماً آمنة أكثر من غيرها من المدن المغربية، وخاصة المدن الكبرى على سبيل المثال.
الصحافيان البازي و العلكي  يؤكدان صحة هذه الملاحظة، ويحاولان تفسيرها بعدد من خصوصيات عاصمة الغرب .
يندر، بل يستحيل، أن نقع على مجتمع خالٍ تماماً من العنف. فجميع المجتمعات، سواء القديمة أو الحديثة، شهدت وتشهد أشكالاً من العنف بهذا القدر أو ذاك.

وإذا كان هناك من فرق بين مجتمع وآخر على هذا الصعيد فهو، في الحقيقة، فرق يطال مدى تفشي هذه الظاهرة واتساعها أو ضمورها والأشكال التي تعتمدها والأغراض التي تسعى وراءها. وعليه، فمن الواضح أن المجتمعات الغربية، سواء الأمريكية أو الأوروبية هي مجتمعات يتجلى عنفها بطرق هي بعددها ونوعها غير الطرق التي يتجلى فيها العنف في مجتمعاتنا العربية. وهذا الاختلاف أفضى إلى القول إن مجتمعاتنا، وبالتالي مدننا، تتمتع بهذا القدر أو ذاك بنوع من الأمان النسبي قياساً على ما هو عليه حال مدينة القنيطرة. والأمر صحيح.

الأرقام الدموية.. صعبة على القراءة

من الممكن للقارئ المهتم بالأرقام أن يجد الكثير الكثير منها على شبكة الإنترنت. ولكن قراءة هذه الأرقام تتطلب تمحيصاً دقيقاً لإدراك ما تمثله فعلاً. فما يسمى جريمة في التقارير الرسمية يشمل كل أشكال خرق القانون بدءاً بجنايات القتل وانتهاءً بإعطاء شيك من دون رصيد أو تلقي رشوة أو حتى مشاكسة شرطي السير. ولذا، إن كانت الأرقام المتعلقة بمدينة القنيطرة تتحدث عن الجرائم بالآلاف مما قد يثير قلق القارئ المغربي ، فإن التدقيق في هذه الأرقام سرعان ما يطمئنه.

فلو أخذنا جرائم القتل مثلاً، لوجدنا أن إحصاءات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية تشير إلى وقوع جريمة قتل كل 31 ثانية. أما في الهند حيث يبلغ عدد السكان أكثر من ثلاثة أضعاف سكان أمريكا، فتقع جريمة قتل واحدة كل 16 دقيقة.

المسألة إذن مسألة اختلاف المجتمعات. ولكن هل يعود تفشي الجريمة إلى الحداثة ونمط الحياة الغربية كما هي اليوم.. لا شيء يؤكد ذلك. فالوضع في أمريكا الجنوبية ليس أفضل حالاً منه في أمريكا. ولعل المثل الأشد فجاجة يأتي من جنوب إفريقيا حيث أحصيت 19,000 جريمة قتل خلال العام 2006م، مقابل 426 جريمة قتل في سوريا سنة 2004م!!

ولهذا لم يكن مستغرباً أن يعبِّر الصحفي البازي  عن دهشته الكبيرة للشكل الذي تُعرض فيه الحلي الذهبية والجواهر في المتاجر المشرعة أبوابها للمارة، قائلاً: لو ان متجراً واحداً تصرَّف هكذا في جوهانسبرغ لتعرض للسطو وقُتل صاحبه خلال دقائق.. ثم يصحح كلامه: خلال دقيقة واحدة .

و أكد البازي ، إن هناك 400,000 جريمة ترتكب يومياً في العالم، وإن الجريمة قد نمت خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة حوالي 8 مرات في أمريكا، و7 مرات في بريطانيا والسويد، و4 مرات في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ومرتين في اليابان، نجد أن المغرب  بقي، والحمد لله، بعيدا عن هذا النمو المرعب. لا بل يمكن القول إنها، رغم ازدياد معدلات الجريمة عموماً بقيت نسبياً بمنأى عن هذا المسار العام. ففي حالة سوريا التي أشرنا إليها أعلاه انخفض عدد جرائم القتل في العام 2005م عما كان في العام السابق، ليصل إلى 340 جريمة فقط استناداً إلى مركز الإحصاء المركزي بدمشق.

الإحساس أوضح من الأرقام

والواقع أنه يمكن للقارئ أن يستغني عن هذه الأرقام جملة وتفصيلاً بمجرد الالتفات إلى حياته اليومية في القنيطرة .

ففي القنيطرة على سبيل المثال، يمكن لأية سيدة أن تستقل بمفردها سيارة أجرة ليلاً لتنتقل من حي لافبلوت في وسط القنيطرة إلى أطراف حي المسيرة ، من دون أن تخشى التعرض لأذى السائق. فهي والسائق يعرفان أنها بمجرد ظهور أول بادرة خطأ، فإنها ستلقى الدعم الفوري من كل المارة ومن في الجوار.. رغم كل الأرقام التي تتحدث عن ارتفاع نسبة جرائم التحرش والجريمة عموماً في المغرب .

ورغم كل الأرقام أيضاً التي تتحدث عن وجود 10 آلاف قضية في محاكم القنيطرة ، يعرف المرء في عاصمة الغرب أن بإمكانه التجول أينما شاء بعد منتصف الليل بكل ما يحمل من نقود من دون أي إحساس بوجود خطر تعرضه للسلب.

ومما لا شك فيه أن التعديات التي تطال الأفراد في القنيطرة  لا تشكل، في الحقيقة، ظاهرة بكل معنى الكلمة على غرار ما في المدن الغربية. فالمعروف أن في هذه الأخيرة يتجنب المرء قدر المستطاع التنقل وحيداً في الشوارع، وبخاصة أثناء الليل، خوفاً من أن يتعرض للسرقة، أو للضرب.

وفي هذا الصدد يروى أن إحدى أهم النصائح التي تعطى للمواطن الأمريكي، أو للذي يزور أمريكا، وهو يتسكع ليلاً في الشوارع أن يبقي دوماً في حوزته ولو كمية صغيرة من الأموال يبذلها طوعاً إذا تعرض للسرقة. ذلك أن عدم توافرها في جيبه قد يؤدي به إلى الموت. أما من يزور أية مدينة القنيطرة  فلا بد له من أن يلاحظ أن الناس تتنقّل من مكان إلى آخر وترتاد المقاهي والأندية خلال الليل كما في النهار من دون الشعور أنها يمكن أن تتعرض لأي مكروه.

مدينة القنيطرة

الوافدون إليها مختلفون
تتميز المدن الغربية عموماً، ولا سيما الأمريكية، في كونها تضم خليطاً كبيراً من الأقليات العرقية التي وفدت إليها تباعاً من بلدان عديدة سعياً وراء تحصيل عيشها. أدى هذا الخليط المتنافر ثقافياً، من ضمن ما أدى إليه، إلى تشكيل نوع من الغيتويات المهمَّشة داخل هذه المدن، وهو تهميش دفع بها تاريخياً إلى اعتماد أساليب تتوسل العنف في كثير من الأحيان، وذلك لتحقيق ما تصبو إليه. وقد لا نكون بحاجة إلى التذكير بواقع السود في أمريكا وما عانوه من اضطهاد وتهميش ونظرة عنصرية وبالتالي احتلالهم مرتبة دونية في السلّم الاجتماعي. ويفسِّر هذا الواقع النسبة العالية للجريمة على أنواعها في أوساطهم، الأمر الذي جعل من أمكنة تواجدهم في بعض المدن أمكنة خطرة مثل حي هارلم الشهير في نيويورك. والواقع نفسه هو ما يفسِّر اعتماد جاليات أخرى وفدت إلى أمريكا، وبصورة خاصة الجالية الإيطالية التي اعتمد بعضها جميع أساليب القتل والابتزاز والتهديد والاتجار بالممنوعات، وأعني هنا العائلات المافيوية التي أرعبت سنين طويلة المجتمع الأمريكي.

وشهدت المجتمعات الأوروبية هي أيضاً هجرة واسعة من بعض البلدان، وبخاصة من المغرب العربي وإفريقيا، وإذا أخذنا فرنسا مثلاً، فالواضح أن أبناء هذه الجاليات الذين استقر أهلهم في ضواحي المدن، لم يتوانوا في الكثير من الأحيان وبفعل التهميش الذي يتعرضون له عن اعتماد أساليب عنف. وما شهدناه في الآونة الأخيرة في فرنسا من حرق للسيارات والاعتداء على الناس والمحال خير دليل على ما يعانيه هؤلاء. إلى هذا ثمة ظاهرة بدأت تتجلى في بعض الدول الإفريقية وأمريكا اللاتينية قوامها اللجوء إلى العنف من قبل أهل البلد الأصليين ضد الجاليات الأخرى التي يعتبرون أنها تستغلهم وتسرق خيراتهم. هذا كله يجعل من هذه البلدان وتحديداً مدنها مدناً لا تتمتع بالأمان.

هذا العنف وما يستتبعه من عدم استقرار وأمان نتيجة وجود جماعات وافدة من بلدان أخرى لا وجود له، في الحقيقة، في بلدنا المغرب . ذلك أن تركيبة مجتمعاتنا، خاصة في المدن، تختلف كثيراً من هذه الزاوية.

وللإيضاح يمكننا أن ندخل في شيء من التفصيل. فهناك عدد كبير من الدول العربية مثل مصر وسوريا والمغرب والجزائر والسودان والأردن، لم تشهد أية هجرات تستحق الذكر إليها لوافدين ساعين إلى العمل والاستقرار فيها، كما شهدت أمريكا الأفارقة والإيطاليين والصينيين.. وهناك من جهة أخرى دول الخليج العربي، التي شهدت في العقود الأخيرة نهضة تنموية واقتصادية عملاقة استدعت الاتكال جزئياً على عمالة وافدة.

ولكن ما بين المجتمعات الخليجية والعمالة الوافدة عقد صريح. فالعامل هنا هو لعمل معين ومحدَّد بدقة مقابل مكافأة محددة بدقة. فهو ليس في موطن بديل كما هو حال الإيطالي في أمريكا، ولا هو في القاع وفوقه أفق مفتوح للصعود الاجتماعي بمختلف الوسائل، كما كان حال السود في أمريكا.. وحزم المجتمعات الخليجية في التطبيق الصارم لهذا العقد، يبقي العمالة الوافدة (مهما بلغت في تجاوزاتها) بعيدة جداً عن أن تقارن بالجماعات التي وفدت إلى أمريكا للاستيطان والاستقرار من حيث زعزعة الاستقرار الاجتماعي في البلد المضيف.

حجم المدن يلعب دوره

وفي هذا الصدد، لا بد من التطرق إلى عامل آخر يتعلق بحجم المدن وما لهذا الحجم من تأثير على الأمن أو عدمه. ففي هذا الصدد تشير الدراسات التي تناولت هذا الموضوع إلى أن نسبة الجريمة في المدن الكبرى هي نسبة عالية قياساً على المدن الصغيرة الحجم. وهذا الأمر ليس بمستغرب، ذلك أن ضبط الأمن وملاحقة الجريمة في المدن الكبرى هما من الصعوبة بمكان. ذاك أن طابع الغفلة يطغى على مميزات هذه المدن، أي ان الناس فيها لا يعرف بعضها بعضاً. والغفلة تسهم بصورة من الصور في نشوء عصابات تمتهن الاحتيال والسرقة والجريمة.

أما فيما يتعلق بمدينة القنيطرة، فالواضح أن في معظمها كثافة سكانها ضئيلة، هذا إذا استثنينا مدينة الدارالبيضاء  التي تشبه من هذه الزاوية كبرى المدن الغربية. ففي القنيطرة ضوابط على صعيد ما يسمى بحياة الأحياء والحارات حيث ينخرط الناس في علاقات يومية، وبالتالي يعرف بعضهم بعضاً، الأمر الذي يجعلهم حراس أمكنتهم. ففي دراسة عن هذه الاخيرة تناولت حياة الأحياء والتزاور بين الجيران هناك فصول تتكلم عن الدور الذي يلعبه الأولاد في محاصرة الغريب الداخل إلى الحيّ، وهي محاصرة تأخذ شكل الدليل الذي يساعد الغريب وإرشاده إلى المكان الذي يقصده. إذن يمكن القول إن المجتمع الأهلي في القنيطرة يقف حاجزاً أمام الكثير من التعديات التي يمكن حصولها.

ومن هذه الزاوية، لا بد من الاعتراف بأن مؤسسة العائلة في مجتمعنا العربي لا تزال تلعب إلى حد بعيد دور الضابط النفسي والمجتمعي. وهذا الأمر يؤثر مباشرة في سلوك أفرادها، هذه السلوكات، ويلجم هذا السلوك إلى حد بعيد أساليب العنف وما يترتب عليها من تدمير لقواعد الحياة السوية التي يرعاها القانون. ولا يغيّر بشيء في المنحى العام بعض الاستثناءات التي تظهر هنا وهناك.

القيم الدينية والأخلاقية

مهما اشتدت الضغوط على ابن مدينة القنيطرة ، ومهما اتسع أمامه المجال لارتكاب الجريمة ، أية جريمة، ومهما كانت علومه الدينية قليلة، هناك حضور قوي للشرطة بقيادة والي أمن عبد الله محسون و العين التي لا تنام نائبه السيد بوزيان مومني ، تفصل بين السلوك الحسن والسلوك الجرمي بخط أحمر واضح لأبسط البسطاء.. واجتياز هذا الخط لا يزال، والحمد لله، يتسبب برهبة، لا فقط من العقاب في الآخرة، بل أيضاً من وضع المكانة الاجتماعية لهذا المتجاوز على المحك. فلا تعود الجريمة مجرد مغامرة تقاس بعوائدها وعواقبها، بل مقامرة تطيح بصاحبها في الأولى بولاية امن القنيطرة و الثانية بالآخرة .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: