هناك اختلافات كثيرة بين حقوقيين وسياسيين وغيرهم مع أحمد الريسوني في جل المواقف التي كان يعبّر عنها عندما كان رئيسا لحركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوية للعدالة والتنمية، أو حتى أثناء توليه رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لكن يبدو أن هناك اتفاقا كليا معه في ما يخص تصريحاته حول الصحراء المغربية، إذ لم يسقط المغاربة في الدعاية الإعلامية الجزائرية التي أرادت تصيّد تصريحاته للدفع بأزمه سياسية بين المغرب وموريتانيا، والتفاعل معه كان بعيدا عن أي اختلاف في التوقع أو الرأي مع الرجل.
الريسوني الذي يبلغ 59 عاما والمتخصص في فقه المقاصد، كانت مواقفه حول العديد من القضايا خلافية والتي تتوافق مع تكوينه وشخصيته وانتمائه السياسي، من مسألة تعامله مع حقوق المرأة إلى رفضه الاحتفاء بمولد النبي صلى الله عليه وسلم الذي دأب عليه المغاربة منذ قرون، وكعالم في فقه المقاصد وصفت آراؤه ومواقفه بأنها موغلة في التشدد، وهذا ما دفع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين لاختياره خلفا ليوسف القرضاوي، ولكن يبدو أن أحمد الريسوني لم يكن مؤثرا كفاية داخل الاتحاد، وظهر هذا من تخلي التنظيم عن الريسوني بعدما توضح تضارب المصالح بين الطرفين، فالمجلس ودون مواربة يصدر فتاواه ومواقفه بناء على الطلب وخدمة لأجندات الإخوان في المنطقة.
الاتحاد أراد التدخل في طبيعة النظام السياسي المغربي المبني على إمارة المؤمنين، والذي يتحسس منها أعضاؤه الدائمون، ويرون الملك منافسا لهم في موقعهم الذي يستغلونه لأهداف سياسية
درس الريسوني في مدينة القصر الكبير شمالي المغرب، وتخرّج من كلية الآداب، وكونه عمل أستاذاً لأصول الفقه ومقاصد الشريعة في جامعة محمد الخامس، ثم بدار الحديث الحسنية، لم يجعله أبدا فقيه “البلاط” أو مفتي “المخزن”، كما روّجت لذلك الجزائر وأمّنَ عليها الاتحاد الإخواني، فعلاقة الدولة بالريسوني تطبعها شبه قطيعة منذ تصريحاته لسنة 2008، والهجوم عليه جاء لتصفية حسابات جزائرية وبتوافق مع الإخوان داخل الاتحاد الذين أحسّوا بأن الريسوني أخل بقاعدة أساسية عندهم، التنظيم قبل الدولة والوطن، التنظيم هو الاولوية.
أزمة تنظيم بأكمله
رغم أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يقدم نفسه كمنظمة دعوية تسعى لنشر الدين الإسلامي وإحياء التراث العلمي الإسلامي وتحقيقه، وتبنّي المنهج الوسطي، إلا أن مواقفه مرهونة لأجندات سياسية عبّر عنها بشكل قوي ومباشر رئيسه السابق القرضاوي، ما جعله رهينة لتجاذبات سياسية وضعت مصداقيته على المحك وثبت زيفها في العديد من المحطات آخرها الضغط على الريسوني لتقديم استقالته بعدما أدلى بصوته في موضوع يهم بلاد المسلمين ووحدتهم، وهذا يؤكد أن الاتحاد ينطلق في أحكامه ومواقفه من أفكار حزبية ضيقة، مقدما مصلحة حركته على مصلحة الإسلام والمسلمين.
أراد الاتحاد التدخل في طبيعة النظام السياسي المغربي المبني على إمارة المؤمنين، والذي يتحسس منها أعضاؤه الدائمون، فالعاهل المغربي كأمير المؤمنين للمسلمين ولليهود والمسيحيين داخل المملكة، يرونه منافسا لهم في موقعهم الذي يستغلونه لأهداف سياسية، فهم يعتبرون أنفسهم أوصياء على الإسلام والمسلمين، ومؤسسة إمارة المؤمنين التاريخية والقوية وذات مشروعية دينية وتاريخية، تنزع مشروعية الإخوان المسلمين وحركتهم العالمية وهو ما جعلهم ينصّبون مغربيا على رأس الاتحاد، كمحاولة لكسب ود الشعب المغربي والدولة المغربية، رغم أن خطاب الاتحاد موغل في التشدد عكس الخطاب المتسامح لأمير المؤمنين في العديد من القضايا الدينية التي تتقاطع مع ما هو اجتماعي.
الريسوني ذكَّر بالروابط الدينية والتاريخية التي كانت تجمع السلطة السياسية بالمغرب والموريتانيين على مدى قرون طويلة، منتهياً بقوله بوضوح إن المغرب قد اعترف بموريتانيا، ولم يطلب بسحب هذا الاعتراف بل تحدث من منطلق التاريخ كمدخل للحديث عن مشكلة الصحراء التي اعتبرها من مخلفات الاستعمار، مؤصلا موقفه من منطلق وطني، لكن الاتحاد العالمي لم يلتفت إلى هذه النقطة رغم أنها أساسية وبنى موقفه الرافض لأيّ خروج عن قواعده من طرف الريسوني.
لكن إعلان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومقرّه العاصمة القطرية الدوحة، الأحد قبول استقالة رئيسه إثر تصريحات له حول الصحراء المغربية أثارت جدلا، ينم بشكل صريح عن وجود أزمة كبيرة تعصف بالاتحاد، ولم تكن تصريحات الرجل إلا انعكاساً لها، يخفي خلفه خلافات جوهرية في بنية الاتحاد – التنظيم، واتجاهات أعضائه وقياداته، فكل المتابعين لتحركات ومواقف الاتحاد يؤكدون أنه يمر من أزمة بنوية خطيرة تعمقت مع مرور السنوات.
قدم الريسوني استقالته من رئاسة الاتحاد في بيان قال فيه إنه متمسك بمواقفه وآرائه الثابتة الراسخة التي لا تقبل المساومة، معبّراً عن حرصه على ممارسة حريته في التعبير دون شروط ولا ضغوط. ولم يقل الريسوني ما هي تلك الضغوطات ولا طبيعتها، ولا مصدرها، وهل هي تحدث للمرة الأولى أم أنها سمة صبغت مسار الاتحاد منذ تأسيسه وحتى لحظة الدفع بأحد رؤسائه إلى الاستقالة أو الإقالة وتجميد العضوية كما ورد على لسان بعض الأعضاء.
الاتحاد أم الأوطان؟
اصطدام التوجهات التي يعبّر عنها الاتحاد مع الروح الوطنية لأعضائه، دفع الريسوني إلى التصريح علانية عن أن مواطنيه المغاربة ”مستعدون للزحف نحو تندوف لتحرير صحرائهم”، مشيراً إلى أنه “حتى وجود موريتانيا غلط، فضلا عن الصحراء، والمغرب يجب أن يعود كما كان قبل الغزو الأوروبي“.
الريسوني المتخصص في فقه المقاصد كانت مواقفه حول العديد من القضايا خلافية، تتوافق مع تكوينه وشخصيته وانتمائه السياسي، من مسألة تعامله مع حقوق المرأة إلى رفضه الاحتفاء بمولد النبي الكريم الذي دأب عليه المغاربة منذ قرون
مجلس أمناء الاتحاد رد على استقالة الريسوني ببيان عبّر فيه عن استجابته لرغبة الأخير بالاستقالة من رئاسة الاتحاد، وعلّل المجلس ذلك بتغليب المصلحة والاستناد إلى ما نص عليه النظام الأساسي للاتحاد الذي خوّل المجلس إحالة الاستقالة إلى الجمعية العمومية الاستثنائية كونها جهة الاختصاص للبت فيها في مدة أقصاها شهر.
تصريحات الريسوني كانت أشبه بهزة عنيفة تعرّض لها الاتحاد دفعت أمينه العام الشيخ علي القره داغي إلى التبرؤ منها، والقول إن موقف الاتحاد من تصريحات رئيسه “تمثله وحده ولا تمثل علماء المسلمين“. ودستور الاتحاد حسب القره داغي ينص على أن الرأي الذي يسند إلى الاتحاد هو الرأي الذي يتم التوافق والتوقيع عليه من الرئيس والأمين العام بعد المشورة ثم يصدر باسم الاتحاد، وبناء على هذا المبدأ فإن المقابلات أو المقالات للرئيس أو الأمين العام تعبّر عن رأي قائلها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد.
ما قاله الريسوني في حقيقته هو قناعة يتوقع الكثيرون أنها راسخة لدى العلماء المسلمين، لا مسألة رأي، فالرجل تحدث عن قضية الصحراء باعتبارها “صناعة استعمارية“، ومع أنه أوضح رأيه بما يقطع الشك، إلا أن ذلك لم ينفعه، فحتى حين قال “لا تفريق عندي ولا مفاضلة بين مغربي وجزائري أو مغربي وموريتاني أو مغربي وتونسي أو مغربي وليبي، بل المسلمون كلهم إخوتي وأحبتي“، لم يجد توضيحه أي أذن صاغية.
ويلوم هؤلاء ”العلماء“ الريسوني على ولائه لبلاده، ورفعه صوته بضرورة التمسك بالوحدة الترابية للمغرب، وهذه ليست المرة الأولى التي يدور فيها جدل حول آرائه وتصريحاته، فقد عرفت عنه فتاوى اعتبرها البعض ”صادمة“ وغير وفاقية، بعد أن برز اسمه في مرحلة ما بعد سقوط حكم الإخوان في مصر عام 2013، حين تولى منصب نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي حينها، ليخلفه على منصبه بعد خمس سنوات.
لقد انتصر الريسوني لحسه الوطني ووحدة بلده، عندما رأى أن قضية الصحراء “صناعة استعمارية” وللأسف فإن بلدانا شقيقة عربية ومسلمة مثلها مثل المغرب متواطئة في محاولة التقسيم هذه، والقصد هنا الجزائر التي تأوي انفصاليي بوليساريو، في مقابلة مع موقع “بلانكا برس” المغربي منتصف أغسطس الجاري، وما أثارته تصريحاته من ردود أفعال غاضبة لدى الإسلاميين في الجزائر الذين طالبوا بإقالته، تؤكد أن هذه القضية خلافية داخل أروقة الاتحاد، وهذا ما يجعل الجزائر وإن رفضت الأمر طرفاً في قضية الصحراء ولديها مصالحها في إبقاء جذوة الصراع عليه مشتعلة، علاوة على دعمها المتواصل لجبهة بوليساريو والتأكيد على مطلبها بتنظيم استفتاء لتقرير مصير الإقليم.
الجزائر طرف محرض
الضغط الذي مارسته الجزائر كان واضحا، عندما أعلن 25 عالماً جزائريّاً تجميد عضويتهم في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين احتجاجاً على تصريحات الريسوني التي اعتبروها “مستفزة وعدائية”، واشترط المنسحبون استقالة الرجل أو اعتذاره وتراجعه عما قاله، وأُريد لقرار الانسحاب أن يكون ذا طابع رسمي، لذلك تولت إعلانه وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية.
تورط الجزائر في هذه المسألة كان واضحا من خلال رد الفعل على استقالة الريسوني عندما أعلنت وكالة الأنباء فيها، في تقرير خصّص للرجل إن ”السحر ينقلب دوما على الساحر“، بعدما دخلت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على خط ردود الفعل بإعلانها عن تجميد نشاطها في الاتحاد، كما دعت كل العلماء المسلمين إلى دعم قرارها والحذو حذوها في المطالبة بتنحية الريسوني من منصبه.
وكأنه انتصار بالغ اعتبر رئيس الجمعية الجزائرية عبدالرزاق قسوم قبول الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين استقالة الريسوني بمثابة استجابة للمطالب العادلة والمشروعة لعلماء الجزائر، معلنا عن استئناف النشاط ضمن الاتحاد.
الأحزاب السياسية الجزائرية بمختلف مشاربها أدلت بدلوها، عندما نعتت الريسوني بأنه ”حاقد جهول، متنكر لقيم الإسلام“، وقالت إنه يصدر عن “مراهقة متأخرة وفراغ روحي“، وفي موريتانيا وصفت هيئة العلماء المسلمين الموريتانيين تصريحاته بـ”المريبة والمستفزة”، معتبرة أن هذا النوع من الدعوات “لا علاقة له بوحدة الصف الإسلامي” وأنه “تطاول” على سيادة الدول، بينما رفض المجلس الأعلى للأئمة الصحراويين ما اعتبرها دعوة من الريسوني إلى “الجهاد” ضد الجزائر وموريتانيا.
الريسوني ذكَّر بالروابط الدينية والتاريخية التي كانت تجمع السلطة السياسية بالمغرب والموريتانيين على مدى قرون طويلة، منتهياً بقوله بوضوح إن المغرب قد اعترف بموريتانيا
البديل جاهز وهو ما يعني أن طبخة إبعاد الريسوني عن رئاسة المجلس كانت تحتاج فقط إلى تصريحاته بخصوص الصحراء المغربية، بعدما كشفت مصادر مقربة من الجمعية العمومية للاتحاد أنها ستنعقد قريباً بطلب من مجلس الأمناء، للتأشير على الشيخ عصام البشير رجل الدين السوداني الذي تلاحقه العديد من الإشكالات، والذي شغل منصب الأمين العام للمركز العالمي للوسطية، والأمين العام لمنتدى النهضة والتواصل الحضاري، وتحمل حقيبة وزير الأوقاف في بلاده، وهو حاصل على دكتوراه في علم الحديث.
كان البشير عضواً في مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة. وعضواً في الهيئة العليا لجائزة الأمير نايف للسنّة والدراسات الإسلامية المعاصرة في المدينة المنورة. وقد حاز على جائزة الملك عبدالله بن الحسين للعلماء والدعاة عام 2004 في الأردن.
وهو واحد من القيادات البارزة للإخوان المسلمين، فبعد سقوط نظام عمر البشير في السودان أصدرت النيابة السودانية أمرا بالقبض عليه باعتباره مقرباً من الرئيس المخلوع، موجهة إليه تهمة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال. بعد أن كان قد تولى إمامة المصلين بمسجد النور ”الرئاسي“ في ضاحية كافوري شمالي العاصمة الخرطوم.
وبذلك تبدو خيارات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وكأنها لا تنفصل عن تخبط جماعة الإخوان المسلمين نفسها التي باتت ترى نفسها معزولة عن الواقع، سواء في طروحاتها الفكرية أو السياسية، أو حتى في أداء قياداتها وانفصالهم الكلي عن جيل الشباب.