شارع محمد الخامس

مرزوقي

النظافة التي هطلت على شارعي الحبيب بورقيبة ومحمد الخامس في العاصمة التونسية كانت محل ترحاب في البلاد التي يعاني أهلها من الأوساخ والذباب وتقاعس عمال التنظيف بعد أن نالوا أكثر من حقوقهم إبّان “ثورة الياسمين”.

كل ما في الأمر هو أنّ تونس تحتضن القمة اليابانية – الأفريقية، وكان على شوارعها أن تتشبه بشوارع طوكيو، حتى أني تهت ليلة البارحة وظننت نفسي أتسكع في مدينة لا تخصني.

ذكّرني الأمر حين كنت صغيرا، وكنا نبتهج كثيرا حين يزورنا الضيوف والغرباء.. نظافة في كل مكان، طعام لذيذ وفخم، لطف وأدب جمّ لم تعهدهما الأسرة من قبل.

وحينما يمضي كل إلى غايته ويعود الوافدون إلى ديارهم، تعود الفوضى إلى بيوتنا، وتلتحق حليمة بعادتها القديمة.

هكذا نحن دائما: قناعان يتناوبان على وجوهنا، واحد للضيوف والغرباء، وآخر للأقارب وأهل البيت.

داخل كل خزانة في منازلنا، صحون وكؤوس فخمة لمّاعة للضيوف، وأخرى رثة ومهترئة لأهل الدار.

هذه الازدواجية الحضارية ترافقنا في حلنا وترحالنا، وتعطي انطباعا بأننا قوم نلبس بدلات ذات وجهين، واحدة لنا، وثانية نرغب في إظهارها للآخرين.

نحن كرماء وأسخياء مع الآخرين، لكننا بخلاء وشحيحون مع ذواتنا، فما سر هذا الانفصام اللعين؟

كل ما في الأمر أن مرايانا التي ننظر فيها كل صباح، مهشمة، محدودبة ومقعّرة، تُظهر وجوهنا مشوهة في كل مرة نحاول أن نتجمّل فيها.

كدت في شوارع تونس التي تشبهت بطوكيو أن أطلب طبقا من “السوتشي”، وأدخل مسرحا يعرض “النو” و”الكابوكي”، وأفترش الأرض ممارسا لليوغا، وأنا أرتدي “الكيمينو”.

وكذلك قد أفعل حين تزورنا وتحتفي بنا سويسرا أو النمسا أو إنجلترا، فأسارع إلى طلب “جبنة الفوندو” أو رقص “الفالس” أو آكل “الشييس أند فيش”، أمّا عن أطباق الصين والفلبين والتايوان وأطباق الحشرات، فأمر آخر وأذواق أخرى.

الذهاب نحو الآخر شيء، والانصياع إليه أو التمسح به ومجاملته الكاذبة، شيء آخر.

تنظيف وتلميع صالات الاستقبال في المطارات والموانئ والمحطات أمر ضروري في كل بلدان العالم، على اعتبار أنها الوجه البشوش اللازم لاستقبال الضيوف، أمّا أن تكشّر البلاد وتعبس في وجوه مواطنيها، مقابل أن ترحب بالأجانب، فأمر غير معقول.

نحن يا سادة الأرض نأكل مع ضيوفنا ما أطعمتنا الأرض نفسها، ونفترشها لاستقبالهم، لكن أن نقيم في ديارنا مطبخين اثنين وصالونين اثنين، واحد للوافد وآخر للمقيم، فهو ضرب من خداع الذات والآخر.

أهلا بالأصدقاء اليابانيين في بلادنا بوابة أفريقيا، لكم أتمنى أن تطيلوا الإقامة بيننا كي ننعم بشوارع نظيفة، وابتسامات من رجال الشرطة والمرور، لكنها مقفلة في وجه السكان المحليين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: