ملف دول الاتحاد المغاربي ينتمي إلى فئة الملفات الخاصة. كل ما يخص دول الاتحاد، يجب أن يكون على مكاتب زعماء الدول، وليس في وزارة الخارجية، أو أية مؤسسة سيادية أخرى. العلاقة الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة هي ملف بين مكتب رئيس الوزراء البريطاني والبيت الأبيض. العلاقات الخاصة بين ألمانيا وفرنسا هي ملف حصرا بالمستشارية والإليزيه. ترك الكثير من آليات مجلس التعاون الخليجي يعمل رغم عمق الخلاف بين دوله، ثم آلت الأمور إلى تسوية. ينبغي أن لا يشذ ملف دول الاتحاد المغاربي عن النظر إليه بهذه الطريقة، مهما كانت مشاكل العلاقات البينية بين الدول.
تستضيف تونس قمة تيكاد التي ترعاها اليابان. وتناقضت الرواية التي قدمتها الخارجية التونسية عن طريقة توجيه الدعوات لحضور القمة، مع بروتوكولات استضافة القمم في العالم. لا يمكن لمفوضية الاتحاد الأفريقي أن توجه دعوات باسم تونس، لأن تونس هي الدولة المضيفة. ورسالة البعثة اليابانية للاتحاد الأفريقي التي تم تداولها بشكل واسع واضحة لا تحتمل الجدل، إذ حصرت الدعوات برئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا والرئيس التونسي قيس سعيد. وطالما أن الأمر على مستوى القمة، أي على مستوى الزعماء، فإن هذا الأمر كان يجب أن يكون في قصر قرطاج وليس بتنسيق سفير من السفراء المقيمين في الخارجية التونسية. كيف لدعوة منظمة بوليساريو، والتي لا تعترف بها تونس شكلا وتفصيلا، أن تمر وأن تسمّم العلاقات مع المغرب، الدولة المؤسسة والمحورية في الاتحاد المغاربي؟ أين كانت الرئاسة من توجيه الدعوة، وما الغرض منها أساسا، دع عنك الفائدة التونسية من تقديم وضع اعتباري لبوليساريو في أواخر أيامها، بعد أن صار واضحا أن اعتراف الدول الكبرى عالميا، وفي الشرق الأوسط بمغربية الصحراء هو حقيقة واقعة؟ التأييد الإسباني للحل المغربي لأزمة الصحراء هو الحلقة الأخيرة، والأهم، في تسوية ملف عالق تحرّكه الجزائر أكثر من تحريكه بيد أي زعيم مر على منظمة بوليساريو.
نحن أمام موقف ملتبس. إما دعوة مرت بلا تمحيص دبلوماسي كافٍ، أو تجاوب مع ضغوط جزائرية هذه بدايتها ولن نصل إلى نهاية لها
مما راج من تفسيرات للدعوة استرضاء للجزائر، هو أن تونس تمر بوضع اقتصادي صعب وأنها مضطرة للتجاوب مع ضغوط الجزائر السياسية. علينا، والأمر كذلك، أن نتخيّل طلبا جزائريا صريحا باستقبال إبراهيم غالي زعيم بوليساريو وكأنه رئيس دولة. لا نعرف إن كان هذا قد تم، ولكنه لو تم، فسيكون سابقة خطيرة لأطر العلاقة بين تونس والجزائر. اليوم تطلب الجزائر استقبال غالي، فماذا ستطلب في الغد أو بعد غد؟ ثم بماذا تهدّد الجزائر تونس؟ بالغاز؟ المنطق الاقتصادي الجزائري محيّر بالطبع، لأن الجزائر بادرت بقطع الغاز عن الأنبوب الذي يمر بالمغرب، لتحرم المغرب من الغاز وواردات مرور الغاز الجزائري نحو إسبانيا.
المبرر الذي قدم لن يكون مقبولا لتوجيه اتهام في مخفر شرطة بقرية صغيرة في أي مكان في العالم: تهمة بتسبب المغرب بحريق في غابة جزائرية. كانت غابات حوض المتوسط تحترق بسبب موجة الحر، بل واحترقت غابات مغربية. بعد عام، لم نسمع عن نتائج أي تحقيق عما حدث في تلك الغابة الجزائرية، وها هي الحرائق تشتعل وتقتل العشرات في شرق البلاد على مقربة من الحدود التونسية. هل يمكن لبلد مثل تونس أن يرضخ لضغوط من دولة شقيقة تبتز جيرانها بملف الغاز ومروره بأراضيها؟ القول بأن الجزائر تراعي الأشقاء في تونس يسقط عند سؤال الجزائريين أنفسهم بكيف تراعيهم دولتهم ولماذا هم في الشارع دائما يحتجون على سياساتها الاقتصادية.
الابتزاز الاقتصادي بدوافع سياسية موجود. المثال الروسي مع أوروبا حاضر، وإن كانت المقارنة لا تصح كثيرا، إذ ثمة حرب مشتعلة بين روسيا والغرب على الأراضي الأوكرانية. موسكو تعتبر الغاز سلاحا في حربها ضد أوروبا التي ترسل المال والسلاح لأوكرانيا. لكن ما هي الحرب التي تخوضها الجزائر لتقطع الغاز عن المغرب وتخوّف تونس بعواقب مشابهة؟
طالما قالت الجزائر أنها ليست طرفا في موضوع الصحراء، وهي من سلسلة النكات السياسية المتداولة منذ خروج الإسبان من الصحراء في السبعينات. بوليساريو، في أحسن الأحوال، هي منظمة تنفذ أجندة سياسية جزائرية يتحكم بها العسكر ويرددها الرؤساء الجزائريون ووزراؤهم المتعاقبون. المنظمة تركة متآكلة من آثار الحرب الباردة ومن بقايا سياسة عداء إقليمية تمارسها الجزائر بحق المغرب دون مبررات واضحة. هذه حقائق أساسية بالتأكيد ليست خافية على الرئيس التونسي قيس سعيد.
كيف لدعوة منظمة بوليساريو، والتي لا تعترف بها تونس شكلا وتفصيلا، أن تمر وأن تسمّم العلاقات مع المغرب
لنفترض جدلا أن الرئيس التونسي القادم من مدرجات التدريس الجامعي لديه اطلاع عام على حساسية موضوع الصحراء. لا نعرف بالتحديد كم “صحراوي” التقى الرئيس خلال حياته الأكاديمية أو بعد توليه الرئاسة. سيعدون، بأقصى احتمال، على عدد أصابع اليد الواحدة. هموم قيس سعيد وطنية كما أفصح عنها مرات كثيرة، ولم يوح يوما بأنه مهتم أو منشغل بموضوع من فئة بوليساريو. لكن أي غموض في ذهنه عن موقف المغرب من قضية الصحراء يجب أن يكون قد تبدد بعد أن قال العاهل المغربي الملك محمد السادس بكل وضوح إن العلاقات المغربية مع الدول تمر بمنظار الموقف من الصحراء. لا لبس في هذا بالمطلق. المستشار السياسي المخلص في قصر قرطاج كان يجب أن يهرول إلى مكتب الرئيس لينبّهه إلى أن العلاقة بين المغرب وتونس ستكون على المحك إذا بادرت تونس واستقبلت غالي، مهما كان شكل هذا الاستقبال، ومهما كانت طبيعة الضغوط التي تعرضت لها تونس من الجار الجزائري للقبول باستقباله.
نحن أمام موقف ملتبس. إما دعوة مرت بلا تمحيص دبلوماسي كافٍ، أو تجاوب مع ضغوط جزائرية هذه بدايتها ولن نصل إلى نهاية لها. في الحالين، خسرت تونس ودا مغربيا استثنائيا دون أن تكسب أي شيء.
بالعودة إلى ملف الاتحاد المغاربي، فإن تصفّحا بسيطا لتاريخ الاتحاد يبيّن أن ما لم يتحقق فيه كانت أسبابه سياسية، وبوليساريو والموقف منها بالخصوص. لا يمكن تخيل عداء بين الشعبين المغربي والتونسي. وبعد حين سيجد البلدان تسوية تطوي صفحة زيارة غالي. حدث أن أساءت دول مثل إسبانيا وفرنسا وألمانيا تقدير حساسية المغرب من موضوع الصحراء، ثم تراجعت تلك الدول بسرعة عن مواقفها، وها هي العلاقات المغربية معها تسير نحو الأفضل. في زحمة الإعداد لقمة تيكاد، قد يكون ملف الدعوات مر على أيد ليست خبيرة وانتهينا بخطأ دبلوماسي جسيم. لا يزال ثمة فسحة كبيرة لأن تعيد تونس النظر في موقفها وأن تصحح وضعا ما كان له أن يحدث أصلا.