إنّه تصرف غير مسؤول لا يمكن صدوره عن رئيس دولة تحترم نفسها. هذا أقلّ ما يمكن أن يوصف به استقبال الرئيس التونسي قيس سعيّد لإبراهيم غالي زعيم جبهة “بوليساريو”، التي ليست سوى أداة جزائريّة تستخدم في حرب استنزاف تشنها الجزائر على المغرب منذ نصف قرن تقريبا.
الأكيد أن مثل هذا التصرّف يسيء إلى تونس التي تمر في ظروف صعبة ومعقّدة، كما يشكّل طعنة في الظهر للمملكة المغربيّة التي لم تقدّم لتونس سوى الخير. دعم المغرب تونس في كلّ وقت وساعدها في تجاوز المحن من دون أن يطلب منها شيئا. قبل سنوات قليلة حرص العاهل المغربي الملك محمّد السادس أثناء زيارة إلى تونس على تمديد إقامته فيها أيّاما عدة بغية الإطلاع عن كثب على أحوال المواطنين العاديين فيها ومعرفة ما يعانون منه بطريقة مباشرة.
ما الذي يريده الرئيس التونسي وما الذي يحاول إثباته من خلال استقباله لإبراهيم غالي الذي جاء إلى تونس في طائرة خاصة مباشرة من الجزائر؟ يبدو واضحا أنّه وجد نفسه مضطرا إلى ذلك في وقت تبحث الجزائر عن أوراق جديدة لتأكيد أنّ اللعبة التي تمارسها منذ العام 1975، تاريخ استرجاع المغرب لأقاليمه الصحراويّة، لم تنته بعد. في النهاية، لن يقدّم الموقف التونسي من قضيّة الصحراء ولن يؤخّر، لا لشيء سوى لأنّ القوى الفاعلة في العالم، في مقدّمها الولايات المتحدة ودول أوروبية عدّة والدول الست الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة، اتخذت موقفا واضحا من مغربيّة الصحراء.
◙ تبين أنّ هناك اختراقا جزائريا كبيرا لتونس. هذا أمر مقلق في بلد يحتاج إلى دعم عربي ودولي واضح لمواجهة الأزمة الاقتصاديّة التي يعاني منها
أن يتنطح قيس سعيّد للمغرب يعني أنّه لم يأخذ علما بالموقف الأميركي من قضيّة الصحراء ومن ثبات السياسة الأميركيّة التي ما زالت تلتزمها إدارة جو بايدن، علما أنّها تقررت في الأيام الأخيرة من إدارة دونالد ترامب. يشير ذلك إلى أن الموقف الأميركي من مغربيّة الصحراء صار موقفا واضحا معتمدا لا يتغيّر بتغيّر الإدارات في واشنطن.
يبدو أنّ الرئيس التونسي لم يجد من يقول له إن إسبانيا التي كانت الطرف الذي يستعمر الصحراء غيّرت موقفها وباتت تعتبر الطرح المغربي في ما يخص هذه المنطقة هو الموقف الأكثر واقعية. بكلام أوضح غيّرت إسبانيا، التي تسلّل إليها إبراهيم غالي العام الماضي بجواز جزائري يحمل اسما آخر لأسباب طبية، موقفها. باتت إسبانيا، التي مرت علاقاتها بالمغرب في أزمة حينذاك والتي انسحبت من الصحراء في تشرين الثاني – نوفمبر 1975، تدرك أن الطرح المغربي القائم على الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية هو اللعبة الوحيدة في المدينة. لا مكان بعد الآن لألاعيب جزائرية تجاوزها الزمن وذلك على الرغم من توفّر المال للبلد وجنرالاته بسبب ما يملكه من نفط وغاز.
الأهمّ من ذلك كلّه، يبدو أن قيس سعيّد لم يجد من يبلغه بالموقف الذي اتخذته دول الخليج الست في قمتها الأخيرة في الرياض أواخر العام الماضي. تجاوزت الجرأة في الموقف الخليجي موضوع إيران. امتدت الجرأة إلى شمال أفريقيا حيث يمارس النظام الجزائري عدوانيّة موصوفة في تعاطيه مع المغرب. كانت الرسالة الخليجية إلى النظام الجزائري في غاية الوضوح وذلك بتشديدها على “مغربيّة الصحراء” من جهة وعلى الشراكة مع المغرب من جهة أخرى.
قال البيان “أكد المجلس الأعلى أهمية الشراكة الإستراتيجية الخاصة بين مجلس التعاون والمملكة المغربية، وتنفيذ خطة العمل المشترك، ومواقفه وقراراته الثابتة الداعمة لمغربية الصحراء، والحفاظ على أمن المملكة المغربية واستقرارها ووحدة أراضيها، مشيداً بقرار مجلس الأمن الرقم 2602 الصادر بتاريخ 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بشأن الصحراء المغربية”.
ليس معروفا أين مصلحة تونس في السير في سياسة معادية لدول مجلس التعاون الخليجي التي ساعدتها وما زالت تساعدها يوميا في الوقوف في وجه الحركات المتطرفة من نوع حركة النهضة التي عملت على تفكيك الدولة التونسيّة.
◙ أن يتنطح قيس سعيّد للمغرب يعني أنّه لم يأخذ علما بالموقف الأميركي من قضيّة الصحراء ومن ثبات السياسة الأميركيّة التي ما زالت تلتزمها إدارة جو بايدن
من الواضح أن قرار استقبال زعيم “بوليساريو” في تونس قرار جزائري. لم يستطع النظام الجزائري انتزاع الموقف الذي يريده من موضوع الصحراء خلال وجود الرئيس إيمانويل ماكرون في مدينة الجزائر. تحدث الرئيس عبدالمجيد تبون عن مناقشة قضية الصحراء مع ماكرون، لكنّ اللافت أنّ الرئيس الفرنسي لم يشر في المؤتمر الصحافي المشترك مع تبون إلى أنّه جرى التطرق إلى هذه القضيّة من قريب أو بعيد!
في كلّ الأحوال، تبين أنّ هناك اختراقا جزائريا كبيرا لتونس. هذا أمر مقلق في بلد يحتاج إلى دعم عربي ودولي واضح لمواجهة الأزمة الاقتصاديّة التي يعاني منها وهي أزمة مركبة زاد عمرها على عشر سنوات. هل تستطيع الجزائر أن تأخذ على عاتقها حل الأزمة التونسية، علما أنّها في حاجة إلى من ينتشلها من أزماتها الكثيرة؟
الثابت أنّ ما أقدم عليه قيس سعيّد أقرب إلى مغامرة أكثر من أي شيء آخر. لم يسبق لتونس في أي وقت، خصوصا في أيام الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي والباجي قائد السبسي، قبول أن تكون في خدمة أي قوّة خارجية قريبة منها أو بعيدة عنها. تحدّى الحبيب بورقيبة جمال عبدالناصر في عزّ سطوته. كان ذلك في العام 1966 عندما ألقى خطابه المشهور في أريحا ودعا صراحة إلى قبول قرار التقسيم في فلسطين. كان ذلك قبل حرب العام 1967 التي تسببت بكارثة عربيّة. أثبت الحبيب بورقيبة، وقتذاك، أنّه زعيم عربي حقيقي يمتلك قراره التونسي المستقلّ. وقف لاحقا في وجه معمّر القذافي الذي أراد ابتلاع تونس واستطاع وقفه عند حدّه مرات عدّة.
لم يرتكب قيس سعيّد خطأ ارتكب خطيئة. ارتكب هذه الخطيئة في حق تونس، قبل المغرب… في وقت غير مناسب لتونس. ارتكب الخطيئة في وقت يسعى فيه الرئيس التونسي، في ضوء الاستفتاء الأخير على الدستور، إلى أن يكون الحبيب بورقيبة الآخر. يتبيّن بعد استقباله إبراهيم غالي أنّه لا يستطيع حتّى أن يكون زين العابدين بن علي الآخر!