هل العربية عائق اتصال لدى قيس سعيد

شلبي

كان الحجاج إذا صعد المنبر “تلفّع بمطرفه ثمّ تكلم رويدا فلا يكاد يُسمع ثم يتزيّد في الكلام فيُخرِج يده من مطرفه ثم يزجر الزجرة فيقرع بها أقصى من في المسجد”. يدل هذا الكلام الذي أورده كثيرون، منهم ابن عبد ربه في العقد الفريد، على أن التخاطب مع الناس، أي ما نسميه اليوم اتصالا، كان منذ وقت طويل مسألة تأثير وإقناع لا بالكلام وحده بل كذلك بما يصاحبه من مؤثرات أخرى.

وقد يكون غياب تلك المؤثرات سبب الانتقادات الواسعة التي تطال الرئيس التونسي قيس سعيد لا اللغة العربية التي يستخدمها ويرونها خالصة لا تفهم. فكثير من الشخصيات العامة، التونسية وغيرها، تتحدث العربية وكثير من التونسيين ينصتون إليها كما ينصتون إلى غيرها في مدارج الجامعات وفي المساجد وفي الدراما وفي الخطب السياسية وفي غيرها ولم يلوموا يوما أحدا على عربيته.

يبدو أن المشكلة الاتصالية لدى قيس سعيد هي الرتابة التي تطغى على كلامه في نبرته وتدفقه وحدته التي لا تتغير بتغير المقام والمقال، وهي رتابة تزداد رسوخا في الأذهان بغياب التعبيرات الحركية كحركة اليدين وتقاسيم الوجه. هي مشكلة اتصالية شكلا تتعمق مضمونا بغياب برنامج سياسي وهو أمر لا ينكره الرئيس الذي بنى حملته على شعار “الشعب يريد”. وهنا مشكلة أخرى تتمثل في أن التواصل يحتاج إلى مواضيع واضحة نبني عليها الاتصال.

كان الجاحظ يقول عن البيان، أي الخطابة أو الاتصال، متحدثا عن وظيفة اللغة في القول، إن البيان “اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى… فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذاك البيان”، والقصد أن الإفهام ليس قضية لغة وحدها بل ما يصاحبها من أساليب أخرى متعددة تُفضي إلى جلاء المعنى.

إنّ محمل الكلام، أي اللغة، هو الصوت وللصوت صفات أربع يُعرف بها وهي الطابع والحدة أو الشدة والنبرة والتدفق. والطابع كالبصمة لا يقدر أحد على تغييره ولا شيء، إلا مرض الحبال الصوتية، وهو الذي يجعل الناس يتعرفون على من يعرفون بمجرد سماعهم دون رؤية وجوههم، تماما كما يفرق السامع في الموسيقى بين العود والقانون والناي دون أن يراها. ولقيس سعيد طابع صوتي كما للناس جميعا ولا يحق لأحد أن يستقبحه فهو لن ينشد شعرا ولن يرتل القرآن ولن يغني.

ويختلف الأمر عندما يتصل بالصفة الثانية أي الحدة التي يتحكم فيها الناس علوا أو انخفاضا. فصوت الرئيس سعيد، في ظهوره التلفزي أو الإذاعي أو في غيرهما من المناسبات، هو نفسه لا يعلو ولا ينخفض خلافا لما عُرف عن زعماء آخرين أو رؤساء دول دون أن يبلغوا مرتبة الزعامة. ويكاد الأمر يكون بالسليقة فالحجّاج الذي ينطلق بصوت خافت ثم يتزيد في الكلام حتى يزجر فيرعب الناس لم يدرس الاتصال ولم ينتصح بمستشارين في الاتصال.

كان الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران رئيسا مثقفا أديبا محاميا يملك ناصية اللغة الفرنسية حد الإبداع. وكان منذ بداية مسيرته السياسية في الأربعينات يركز على ثقافته ولغته لإقناع الناس حتى واجه التلفزيون في الرئاسيات عام 1965 فاكتشف أنّ الخطب أمام الحشود في الساحات والمرافعات في المحاكم غير الحديث في التلفزيون. تذمر ميتران من ذلك في لقاء تلفزيوني عام 1976 فرد عليه الصحافي قائلا “أصبحت الآن تسيطر على التلفزيون” فأجاب بعد إطراق “أحيانا أجد نفسي وكأني أحدث نفسي”.

ليس المطلوب أن يكون السياسي على مثل تلك الدرجة من البراعة الاتصالية، التي تحاكي المسرح أحيانا، بل أن يكتسب أدنى درجات توظيف النبرة للموضوع

طور ميتران قدراته وتأقلم مع مقتضيات الاتصال الجديد في التلفزيون حتى سيطر عليه. قد يصل قيس سعيد إلى تلك المرحلة غير أنه مازال يخاطب ضيوفه في القصر كما كان يلقي درسه في المدرج أو كما يحدث صحافيا في الميكروفون بكاميرا أو بلا كاميرا أو كما يشارك في مناظرة مع آخرين أو كما يلقي خطابا في البرلمان أو يكون في حوار مع صحافي في بلاتوه تلفزيوني…هو نفسه بالصوت نفسه حدة دون زيادة أو نقصان.

وتزيد الرتابة عندما يلازم الرئيس نبرة واحدة في كلامه أيا كان الموضوع الذي يتحدث فيه. وللنبرة في الصوت منزلة الدرجة (النوتة) في الموسيقى. فكما تكون القطعة الموسيقية ذات الدرجة الواحدة يكون الصوت ذو النبرة الواحدة في الكلام. كان للزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، كما لآخرين، في خطبه في التلفزيون القدرة على إظهار معاني الضحك أو البكاء والجد أو الهزل أو الرضا أو السخط… في كلامه باستخدام نبرات صوته علاوة على نظراته وحركاته وقسمات وجهه.

وليس المطلوب أن يكون السياسي على مثل تلك الدرجة من البراعة الاتصالية، التي تحاكي المسرح أحيانا، بل أن يكتسب أدنى درجات توظيف النبرة للموضوع، وهي مسألة تكاد تكون طبيعية لدى عموم الناس إذ يحس السامع في صوت المتحدث نبرة من الابتسام أو الرضا في الحديث عن الزيادة في الأجور ونبرة من الحزن في الحديث عن كارثة أو أخرى من السخط في التعليق على عمل إرهابي، فالنبرة مهجة الصوت.

وليس ذلك من الترف في شيء بل هي طبيعة التواصل بين الناس تتحول إلى مهارة لا بد منها عند السياسي لأن التواصل ليس كلاما يحمله صوت فقط. ويقتضي التواصل في أدنى درجاته، علاوة على التحكم في شدة الصوت ونبرته، السيطرة على تدفق الكلام. ويقاس التدفق بعدد الكلمات التي ينطقها المتحدث في الدقيقة الواحدة. ويكون التدفق عادة بين 120 و180 كلمة في الدقيقة في حين أن التدفق عند قيس سعيد هو مئة كلمة وقد يكون أدنى أحيانا.

ويكاد يكون للرئيس التونسي التدفق ذاته أيا كان موضوع الحديث ومكانه، سواء أكان في التلفزيون أم في اجتماع عام، والحال أن التدفق يكون بطيئا إذا اتصل الأمر بتفسير أمر ما ومتوسطا عند الإخبار عن أمر آخر وسريعا عند الحماسة مثلا، وهي مستويات يتحكم فيها المتحدث حسب الهدف الذي يرجوه من كلامه. إن الإبقاء على التدفق نفسه يوحي للسامع بأن الصوت ليس من عند بشر.

إن التدفق الرتيب على امتداد كلام المتحدث يعني أن للكلام كله القيمة ذاتها والأهداف ذاتها والحال أن للكلام مستويات مختلفة في القيمة والوقع في الأنفس. والتدفق الرتيب يعني كذلك أن الكلام الذي نقوله ينتج الأحاسيس نفسها وهو أمر لا يستقيم، فهناك من كلامنا ما يثير فينا الرضا وما يثير السخط أو الراحة أو الألم وهو حال الناس بطبعهم، إذ يرتفع التدفق عند الخائف وينخفض عند المطمئن. إن سبب بطء التدفق عند قيس سعيد حرصه الشديد على النطق السليم فهو يفي كل حرف حقه في النطق وهي مسألة تجعل الكلمات تستغرق وقتا أطول.

إن العربية التي يتحدثها سعيد لا تحمل ما يمكن اعتباره من غريب اللفظ إلا نادرا غير أن استطراداته في الحديث عن سياسته تقود أحيانا إلى غموض المعنى دون اللفظ. ففي حواره في التلفزيون التونسي مساء الثلاثين من يناير سئل عن إقصاء حزبي قلب تونس والدستوري الحر من المشاورات الحكومية فقال “أنا ضد الإقصاء ولكن ليكن الاختيار للشعب، أنا لا أختار، الشعب هو الذي يختار، لكن طريقة الاقتراع هي التي أتت بهذا المجلس النيابي…”.

الشعب اختار قلب تونس في المرتبة الثانية بعد النهضة. هل المقصود هو دعوة الشعب للاختيار ثانية؟ وإذا كان القصد هو أن الشعب اختاره هو فبناء على ماذا قدم أحزابا متأخرة على أخرى متقدمة في الانتخابات التشريعية؟

وفي الحوار نفسه سئل عن الأطراف التي اتهمها بالتآمر على تونس في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2019 فقال “إن التاريخ كفيل بالفرز ولا أريد اتهام أحد” فعاد الصحافي للقول إن التونسيين يجهلون ذلك فاستطرد قيس سعيد “التونسيون يعلمون أكثر مما نعلم، الشباب يعلم ولم تعد تخفى عليه خافية، هي لم تكن حملة انتخابية بل حملة تفسيرية، ذهبت بالليل إلى القصرين هناك وكانت حملة مطاردة لإرهابي ومع ذلك ذهبت دون خوف، لا أخاف الموت بل تخيفني الحياة بلا كرامة…”.

وهناك في الحوار أمثلة أخرى على غموض المعنى مرده أمران إمّا الرغبة في التكتم كشأن المؤامرة وإمّا خواء الخطاب كقوله لما سئل عما سيقدمه للشباب فقال “لم أقدم وعودا بقدر ما قدمت آليات لتحقيق أحلام الشباب وآمالهم”، وهي صعوبات في الفهم لا صلة لها بلغته العربية بل بخطابه الاتصالي.

يمكن لقيس سعيد أن يستمر في الحديث بالعربية إن شاء لكنه يبقى مطالبا، لتحسين أدائه اتصاليا قصد الإقناع، بمراجعة توظيف صوته نبرة وحدة وتدفقا لكسر الرتابة وبالاستعانة بالتعبير الحركي وذاك دور الاتصاليين الذين يدركون ما للاتصال غير اللفظي من دور في التبليغ والإفهام. ويعلم الاتصاليون ألاّ فائدة من اتصال لا يستند إلى مضامين سياسية واقعية تحمل رسائل مقنعة لا تُنتَج من فراغ.

تبدو المهمة عسيرة غير أن خطيب الإغريق ديموستين قهر تمتمته فسحر الناس ولم يبق للرئيس قيس سعيد إلا أن يكذّب المتنبي في مدح سيف الدولة عندما قال “لكل امرئ من دهره ما تعوّدا”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: