هل يعالج الصمت ما خلفه الصراخ

بليدي

لم تنف الجزائر ولم تؤكد ما تم تداوله على نطاق واسع حول زيارة سرية لوفد إسباني إليها في غضون الأيام الماضية، لكن التقارير الإعلامية والسياسية في مدريد والعاصمة الجزائر وضعت الزيارة في حكم الأمر المحسوم، ولم يبق لها إلا معرفة مستوى الوفد وهويته وأجندته.

الوفد قدم في طائرة عسكرية حطت في مطار بوفاريك العسكري بالقرب من العاصمة، وهو أمر مقبول في العرف الدبلوماسي، لولا الظروف والملابسات التي تشهدها علاقات البلدين منذ شهر يونيو الماضي، ولعل عدم النفي هو تأكيد، لكن السؤال لماذا هذا النسق في إدارة الأزمة؟

الأزمات الدبلوماسية بين الحكومات أمر منطقي، وهو نوع من الدفاع عن المصالح وصناعة التوازنات. لكن أن تأخذ الأزمات طابعا شعبويا موجها للاستهلاك، يجعلها تأخذ منحى آخر يضر أكثر مما ينفع، لأنه يكشف نقاط الضعف ويعطي الخصم أوراقا مجانية.

منذ الإعلان عن تجميد اتفاق الصداقة والتعاون وحسن الجوار من طرف واحد مطلع شهر يونيو الماضي، روجت الدعاية الجزائرية لرؤية غير واقعية، فمن غير المعقول الدخول في تدابير دبلوماسية توجه إلى نخبة سياسية حاكمة دون أن تطال الدولة التي تمثلها، والحكومة الإسبانية التي أيدت الطرح المغربي في قضية الصحراء، هي حكومة إسبانيا ولم تنزل من السماء على مدريد.

كما أن الرهان على قوى المعارضة في المؤسسات الإسبانية لإسقاط حكومة بيدرو سانتشيز، والعودة عن الموقف المذكور مقابل تطبيع العلاقات الثنائية من جديد، ظهر أنه رهان خاسر إلى حد الآن، لأن الحكومة مستمرة في مواقعها والمعارضة لا تعدو إلا مجرد أصوات تكرس ممارسة ديمقراطية داخل البلاد، والحاصل أن الموقف ثابت ويمثل إسبانيا وليس حكومة سانتشيز وحده.

ولعل ما يؤخذ على الجزائر إلى حد الآن هو التردد والارتباك في إدارة الأزمة مع إسبانيا، فمن جهة يتم تفعيل القطيعة الاقتصادية والتجارية، ومن جهة أخرى يتم نفيها من طرف البعثة الدبلوماسية في بروكسل. ومن جهة يتم رفع الحظر التجاري ومن جهة أخرى يجري تأكيده. وفوق ذلك تأتي التأكيدات لتقول إن العلاقات المذكورة عادت إلى وضعها الطبيعي.

الدبلوماسية الجزائرية لم تعد تلك الدبلوماسية الرزينة والحكيمة حتى والبلاد في وضع هش، حيث يسود الارتباك والتشنج وتسببت بأزمات متعددة في ظرف قياسي

والآن يزور الوفد الإسباني الجزائر سرا دون أن يتم الإعلان عن ذلك، وعن هوية الوفد وخلفيات الزيارة، مما فتح المجال أمام التأويلات والقراءات التي أكدت أن الشعبوية غلبت هذه المرة على الحتمية، فمن أجل تسويق خطاب عنتري تمّت التضحية بمصالح متجذرة، ولذلك تضاربت الرؤى داخل السلطة في تسيير الأزمة القائمة.

ولعل ما كرّس الغموض على كيفية إدارة الأزمة، هو استثناء اتفاقيات التموين بالغاز من القطيعة التجارية والاقتصادية بين البلدين والحرص على الوفاء بكل الالتزامات السابقة، لكن جاء الإعلان عن تراجع كميات الغاز الجزائري في السوق الإسبانية بحوالي نصف الكميات الموردة خلال العام الماضي، ليطرح مجددا إمكانية دخوله كورقة ضغط قد تكلف الجزائر غاليا لأن تشريعات التحكيم الدولي واضحة في هذا المجال، أو هو مؤشر على خلل فني ما أثر على قدرة الخط المتوسطي على نقل الكميات المطلوبة، لاسيما بعد وقف الضخ عبر الأنبوب المغاربي بسبب الأزمة الأخرى القائمة مع المغرب.

المؤكد أن زيارة الوفد الإسباني حملت في حقيبتها انشغالات مهمة هي أثقل مما يتم تداوله أو تسويقه للرأي العام، خاصة وأن إمكانية لجوء الإسبان إلى ممتلكات وعقارات جزائريين على ترابها كرد فعل على الأضرار التي لحقت تجارتها أو على الضغط الممارس عليها. ومعلوم أن تلك الممتلكات والعقارات المذكورة والتي توصف بـ”الضخمة”، مملوكة لنخب مالية وسياسية منها من كان نافذا في السابق ومنها من هو نافذ الآن.

الدبلوماسية الجزائرية منذ مقدم السلطة الجديدة في عام 2019، لم تعد تلك الدبلوماسية الرزينة والحكيمة حتى والبلاد في وضع هش، حيث يسود الارتباك والتشنج وتسببت بأزمات متعددة في ظرف قياسي، مما ينم عن قصور في إدراك التغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، لكن أصحابها يرون أنها عودة قوية للمشهد وممارسة طقوس السيادة والكبرياء.

غير أن الشعبوية وخطاب العنتريات حبله قصير، وقد تكون زيارة الوفد الإسباني سرا، أحد مؤشرات ذلك، لأن الشكل والمضمون سيكونان بالضرورة عكس ما تم تداوله أمام الملأ، وهو ما يؤكد أن الجزائر تبحث عن تسوية صامتة بدل السجالات الصارخة، أو أنها أدركت أن التغيرات التي يعيشها العالم لا تستوجب المزيد من الأزمات، وهو ربما ما يعكسه تريّثها في الرد على بعض المواقف المستجدة، وخروجها عن منطق رد الفعل كما هو الشأن مع مضمون الخطاب الأخير للعاهل المغربي الملك محمد السادس، أو التصريح الذي أدلى به رئيس المنتدى العالمي لعلماء المسلمين أحمد الريسوني.

إلى وقت قريب كانت الدبلوماسية الجزائرية تعمل في صمت وتدير ملفاتها بعيدا عن الضجيج والأضواء الشعبوية، لكن تحولاّ مّا قلب الموازين فصارت تتكلم أكثر مما تفعل، وهو ما جعلها حبيسة منطق التشنج ورد الفعل، وهو أيضا ما جرّ على البلاد عدة أزمات تُفجّر بصراخ وتُسوّى بصمت، والنموذجان الفرنسي والإسباني خير دليل على ذلك.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: