كثيرون تساءلوا عن خلفيات بدء الخطاب الملكي بقضية إصلاح مدونة الأسرة، مع أن التحديات المقلقة ترتبط أساسا بارتفاع أسعار المحروقات وحدة الاحتقان الاجتماعي، واشتعال الفضاء الافتراضي بوسم تجاوز مليون ونصف يدعو إلى رحيل رئيس الحكومة السيد عزيز أخنوش.
الخطاب في الواقع لم يهمل هذه التحديات، فقد ورد بشأنها كلمات ثورية، انحاز فيها الملك إلى صفوف الطبقات الفقيرة، وذلك حينما اعتبر أن هناك جهات تغتني وتحقق كسبا فرديا من وراء الأزمة، وتساهم في إبطاء التنمية في البلاد من أجل تحقيق مكاسب ذاتية.
بل إن الخطاب الملكي لم يكتف بذلك، وإنما أصدر تعليمات للحكومة للإسراع بإخراج السجل الاجتماعي لتيسير عمليات الدعم المستهدف للفئات المتضررة، وأيضا باستكمال عملية تعميم التغطية الصحية.
لم يعلق الملك على الديناميات السياسية التي عرفها الحقل السياسي المغربي عقب الانتخابات التشريعية الجزئية، والتي تفجر فيها الصراع بين وزارة الداخلية العدالة والتنمية، ووصل حد تبادل التهم بين الطرفين، وفضل بدلا عن ذلك أن ينشغل بما هو استراتيجي، أي ما يندرج ضمن تأمين الاستقرار وخدمة متطلبات التعايش المجتمعي.
الإسلاميون، استقبلوا الخطاب الملكي بسرور كبير عبر عنه الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في تصريح مصور على صفحته في الفايسبوك.
سبب هذا الابتهاج أن الملك انتصر للمرجعية الإسلامية في حسم الصراع في قضية إصلاح مدونة الأسرة، كما فعل لحظة الصراع بين مسيرتي الرباط والبيضاء سنة 2002، وأعاد جملته الشهيرة: «بصفتي أمير المؤمنين لن أحل حراما «.
هذا ليس السبب الوحيد لابتهاج الإسلاميين بالخطاب، فثمة سبب آخر، فعدم تعليق الملك على الديناميات السياسية، وبشكل خاص على الصراع الذي نشب بين العدالة والتنمية ووزارة الداخلية، كان الآخر مبعث هذا السرور، كما أن إشارة تقرير والي بنك المغرب إلى سنة 2021 باعتبارها سنة تحسن المؤشرات الاقتصادية، اعتبرته قيادات العدالة والتنمية، على الأقل السابقة، بمثابة طابع شريف على نجاح التدبير الحكومي السابق في مقابل إشارة تقرير والي بنك المغرب إلى الوضعية الاقتصادية الصعبة في عهد الحكومة الحالية.
الذين يقرؤون الخطاب الملكي بعقل سياسي مؤطر بحيثيات العقد السابق من الصراع السياسي قرؤوا في الخطاب إعلان فشل القوى الحداثية في معارك المساواة في الإرث، وانتصار الإسلاميين في رهانهم على أن يكون منطلق إصلاح المدونة هي الشريعة الإسلامية ومقاصدها، والإسلاميون الذين انتكسوا في المحطة الانتخابية التشريعية الأخيرة (8 شتنبر) أحسوا بنوع من النشوة والاعتراف من الإشارات التي تضمنها الخطاب الملكي من تقرير والي بنك المغرب، واعتبروا ذلك إشادة بتدبير المرحلة السابقة، وانتقاد للتدبير الحالي
في المحصلة تبقى هذه القراءات، خاصة بالفاعلين السياسيين، الذين يحاولون أن يستندوا إلى فقرات من الخطاب الملكي لدعم مواقعهم، أو بالأحرى يحاولون أن يوظفوا الملك والملكية لتقوية مواقعهم في الصراع السياسي.
والحقيقة أن بدء خطاب العرش بقضية إصلاح المدونة في هذا التوقيت الملتهب اقتصاديا واجتماعيا، يحتاج إلى تفسير، فالصراع الذي نشب على خلفية هذه القضية لم يؤثر في الجوهر على الاستقرار الاجتماعي، ولا يمكن أن يقارن بالمطلق بالصراع الذي عرفه هذا الموضوع سنة 2002، والذي بلغ حد تقسيم المجتمع إلى معسكرين اثنين، مع استقطاب خطير، انحازت فيه الجبهة الدينية بمختلف مكوناتها، بما في ذلك الرسمية إلى حراك الإسلاميين في الشارع.
الملك يتجه للاستثمار في تجديد عناصر الشرعية، بالتركيز على وظيفة التحكيم بمحاربة لوبيات المصالح التي تبطء التنمية في البلاد وتهدد الاسلم الاجتماعي، ووظيفة التوحيد بإصلاح مدونة الأسرة بناء على مرجعية الأمة وفق مقاصد الشريعة دون مصادمة النصوص القطعية، ووظيفة الحفاظ على الاستقرار وتأمينه
جائز من الناحية السياسية، أن يقرأ بدء الخطاب بهذه القضية، كأنه رسالة طمأنة إلى الإسلاميين بعد أن تكثف في خطابهم في الآونة الأخيرة حديث عن توجه جهات في الدولة لمسح الإسلاميين من الطاولة، والسماح بممارسة شتى ألوان التدخل الإداري من أجل إفساد العملية الانتخابية ومنعهم من الوصول إلى أي موقع ولو رمزي.
وجائز أيضا أن يقرأ الأمر بمنظار رمزي، فالملك سنة 2002، بتحكيمه في موضوع إصلاح المدونة، كان بصدد بناء شرعية جديدة للحكم، تستند على وظيفة المؤسسة الملكية، ليس فقط في التحكيم بين المؤسسات أو حتى بين أطراف المجتمع، ولكن أيضا في توحيد المجتمع، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. فالملكية، تريد دائما أن تأخذ المسافة عن الأطراف السياسية، وتتعالى عن مواقع الفاعلين السياسيين، وتشغل وظائفها الدستورية، لمواجهة مختلف التحديات، ولو اقتضى الأمر الاستثمار في بناء شرعية جديدة أو متجددة، مثل الاشتغال مرة ثانية على تثوير مدونة الأسرة، بإصلاح كبير، يضمن أسس التعايش المشترك بين مكونات المجتمع، لاسيما طرفيه المحتربين، الحداثي والإسلامي.
المؤشرات الأخرى، تدعم هذه القراءة، فمحاور الخطاب التي تبدو متباينة، ينظمها في الجوهر نسق واحد، هو الجواب عن تحديات الاستقرار.
إصلاح مدونة الإصلاح يواجه تحدي انقسام المجتمع إلى طائفتين حداثية ومحافظة، ذلك الانقسام الذي يمكن أن يدمر أسس التعايش المشترك داخل المجتمع الواحد.
المسألة الاجتماعية، بجميع لوازمها، بما في ذلك الإسراع بإخراج السجل الاجتماعي، لتيسير عملية الدعم للفئات المستهدفة، وتعميم التغطية الاجتماعية، واتخاذ الإجراءات الكفيلة برفع المعاناة عن فئات عريضة من المجتمع، والضرب بيد من حديد على يد بعض لوبيات المصالح التي تنتفع من الأزمة برفع الأسعار على المواطنين وإبطاء وتيرة تنمية البلاد، كل ذلك يندرج ضمن مواجهة تحديات الاحتقان الاجتماعي، وما يمكن أن يترتب عنه من انهيار السلم الاجتماعي.
والدعوة إلى تحويل التحديات الناتجة عن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية إلى فرص لتعافي الاقتصاد وتقوية النسيج المقاولاتي، كل ذلك، يندرج ضمن رؤية تسعى إلى مواجهة التحديات المهددة للتوازن والاستقرار الاقتصادي.
ومد اليد إلى الجزائر، والدعوة إلى الإمساك عن استهداف الجزائريين، والتطلع للعمل مع الرئاسة الجزائرية لطي صفحة الخلاف وفتح آفاق علاقات طبيعية جديدة، يمثل في الجوهر جوابا عن التحديات التي قد تؤثر على الاستقرار الإقليمي.
مؤكد أن جهات في الجزائر، ستقرأ في الدعوة المتجددة للحوار واستئناف العلاقات معها على أساس أنها» تودد أو انكسار أو فشل لسياسة المخزن» لكن في تقدير المغرب، هذه الحسابات الصغيرة، أو حتى الكسوب الإعلامية التي تنطلق من توظيف هذه الدعوة الصادرة من الملك، لا تمثل تحديا، إذا ما قيس بتحديات الاستقرار الإقليمي، وحاجيات الاقتصادات الإقليمية إلى الصمود والتعافي.
المواطنون ترقبوا هذا الخطاب أكثر من أي خطاب آخر، فقد كانوا ينتظرون إجراءات ملموسة للتخفيف من معاناتهم وتقوية قدراتهم الشرائية.
الملك تفاعل مع هذه التطلعات المشروعة، وتحدث الجهود التي قامت بها الدولة لدعم الفئات الفقيرة في المجتمع في الظروف الصعبة (كوفيد 19) وحث حكومته للتسريع بإخراج السجل الاجتماعي وتعميم التغطية الاجتماعية، ووجه الإدارة الترابية لاتخاذ ما يلزم لمحاربة لوبيات المصالح التي تضع مصلحتها الشخصية فوق اعتبارات مصالح الاستقرار الاجتماعي ومتطلبات التنمية في البلاد.
كل هذه الأجوبة كانت منتظرة، لاسيما ما يرتبط بفضح لوبيات المصالح التي تنتفع في وقت الأزمة وتزيد من معاناة المواطنين، لكن الأهم منها- في فهم الخطاب الملكي- أن الملك يتجه مرة أخرى للاستثمار في تجديد عناصر الشرعية، وذلك بالتركيز على وظيفة التحكيم (محاربة لوبيات المصالح التي تبطئ التنمية في البلاد وتهدد السلم الاجتماعي) ووظيفة التوحيد (إصلاح مدونة الأسرة بناء على مرجعية الأمة وفق مقاصد الشريعة دون مصادمة النصوص القطعية) ووظيفة الحفاظ على الاستقرار وتأمينه، ليس فقط في سياق وطني (توفير متطلبات السلم الاجتماعي) ولكن أيضا في سياق إقليمي من خلال دعوة الجزائر لطي صفحة الخلاف وتطبيع العلاقات مع المغرب (الاستقرار الإقليمي).